الثلاثاء 2014/08/19

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

"التوحّد": الحب نصف العلاج

الثلاثاء 2014/08/19
"التوحّد": الحب نصف العلاج
تقدّر حلاوي كلفة علاج الطفل الواحد بـ12 ألف دولار في السنة
increase حجم الخط decrease

يجلس مسا، صاحب السنوات الست، في الصف كبقية التلاميذ. تطلب منه المعلمة أن يرسم بابا نويل، فيستجيب. ثم تطلب منه أن يرسمه بألوان قوس قزح، فينتفض ويبدأ بالصراخ. يضع يديه على أذنيه ليسكت كل الأصوات المحيطة به، ويكرّر أن بابا نويل لونه أحمر، وأنه لن يرسمه بألوان أخرى. مسا ليس كبقية الأولاد فهو مصاب بالتوحد.


لا شفاء من التوحد
التوحد إضطراب يصيب الطفل منذ أعوامه الأولى، ويمكن ملاحظته في فترة الرضاعة. يؤثر هذا الإضطراب على سلوك الطفل وتواصله مع محيطه. ومن عوارضه صعوبة النطق، والتقوقع على الذات وتفضيل الوحدة على إقامة العلاقات مع الآخرين، وعدم القدرة على تحمل الزحمة. كما تظهر لدى المصاب بالتوحد مشاكل في الحركة والتحليل. وأكثر ما يميزه عن غيره تكراره الكلام والحركات.

وكانت دلال جفال، والدة مسا، قد اكتشفت أن ولدها يعاني من مشكلة ما في شهره التاسع. اذ لاحظت، وهي أم لأربعة أولاد، أن مسا، وهو أصغر أولادها، مختلف. تقول جفال: "لم يكن ينظر في عيني. ولا يستجيب حين أناديه باسمه. لا يضحك، ولا يبكي، ولا يحس بالوجع".

جفال التي كانت مقيمة في بلد إفريقي لم تستطع تحديد مشكلة ابنها. دخل مسا عامه الثاني ولا زالت مشكلته مجهولة. جاءت به إلى لبنان ولم يستطع الأطباء تشخيص مرضه. لم تجلس الأم مكتوفة اليدين بانتظار أن يتم التعرف على حالة ابنها. قامت بأبحاث خاصة، فدخلت عالم ابنها من خلال الإنترنت. أخذت جفال تعالج ابنها بنفسها بالطرق التي اكتسبتها من خلال أبحاثها.

لا دواء أو علاجاً يضع حداً لهذا الإضطراب. لكن جفال تعي أن "أسلوب حياة معين كفيل بالحد من عوارضه". ويساعدها، في الاعتناء به، ستة اخصائيين يهتمون بنطق مسا وحركته وتحليله الذهني، ومن بينهم مربية دائمة في البيت وأخرى في المدرسة ومعالج نفسي. وهو يحتاج إلى عناية أمه الدائمة ومساعدة أشقائه، "لكن اندماجه الإجتماعي بات كاملاً إذ يرتاد مدرسة عادية ويختلط مع بقية الأطفال"، وفقها.

تضيف جفال: "يمتلك مسا ذاكرة فريدة، كما يملك درجة عالية من الذكاء، إذ يبرع في الكمبيوتر ويتفوق في المدرسة. إلا أنه في الوقت عينه غير قادر على القيام بأمور بسيطة كارتداء حذائه وحده".


كل طفل حالة خاصة
لا تشبه أي حالة توحد الأخرى. لذلك يرافق كل طفل مرب خاص به يسمى "الأستاذ الظل" أو "Shadow Teacher"، هذا ما تفيد به أروى حلاوي مديرة "الجمعية اللبنانية للتوحد LAS". تضيف: "كل طفل يستجيب للعلاج بطريقة مختلفة، وتأتي حالاتهم بدرجات متفاوتة، حتى أن بعضهم يستكمل تحصيله العلمي في الجامعة". كما أن لهؤلاء الأشخاص إهتمامات وإحتياجات مختلفة. وهذا ما يستوجب وضع نظام أو برنامج تعليمي خاص لكل طفل بحيث يتناسب مع توجهاته وقدراته. "ولهذا يُفصل الأطفال عن بقية الطلاب في حصص معينة، ليدمجوا معهم في حصص أخرى". على أن بعضهم مندمج كلياً، بحسب حلاوي، "في حين أن البعض الآخر لا يختلط مع الطلاب العاديين إلا قليلاً".

المتابعة المبكرة قد تنقذ الطفل وذويه من متاعب كثيرة. فبحسب جورج عازار، العلاج المبكر لابن أخيه آندرو "سمح له بالإنتقال من مدرسة لذوي الحاجات الخاصة إلى مدرسة عادية". وهو يصف آندرو بـ"الطفل الطبيعي. لكنه يعاني من نقص كبير في التركيز، وهو يظل بالرغم من ذلك متفوقاً في مواد كالرياضيات". لكن أكثر ما يميز آندرو (9 سنوات) هو عدم قدرته على فهم المشاعر، فيقول أشياء من دون أن يحسب حساب لتأثيرها على الآخر كوصفه لأمه بـ"الختيارة". من جهة أخرى، تستثير السياسة إهتمامه، فيتحدث عن بيروت والقدس و"تجسس أوباما علينا".


علاج مكلف
كانت الجمعية التي تأسست في العام 1999، من قبل حلاوي وآخرين من أهالي أطفال التوحد، الأولى في لبنان التي تهتم بهؤلاء الأطفال. وهي تعمل على أربع برامج بشكل متواز؛ برنامج الإندماج المدرسي باللغتين الفرنسية والإنكليزية، المدرسة المهنية، وبرنامج التشخيص والتدخل المبكر. ويضم مركز الإندماج المدرسي باللغة الفرنسية 12 حالة، يتولى الاشراف عليها 25 أخصائيا. وبهذا يفوق عدد المشرفين عدد الأطفال أنفسهم. وهذا ما يفسر إرتفاع تكلفة العلاج. فـ"ثلاثون دقيقة تقويم نطق تكلف 100 دولار. ومسا يحتاج الى ثلاث جلسات في الأسبوع"، بحسب جفال. على أن التأمين لا يغطي مثل هذه الحالات ولا يوجد جهة تقدم الدعم. وتقدّر حلاوي "كلفة علاج الطفل الواحد بـ12 ألف دولار في السنة، تؤمنها الجمعية من خلال جمع التبرعات بالدرجة الأولى. كما تدعم الدولة وبعض المنظمات العالمية كالإتحاد الأوروبي المركز، الذي يبدو دائماً في حالة عجز".

وتفيد حلاوي بأنه سيتم إفتتاح مركز يستطيع احتواء 100 حالة العام المقبل. وقد أحصت الجمعية 550 حالة توحد في لبنان. والرقم في إزدياد إذ "تأتي حالة جديدة كل أسبوعين"، بحسب حلاوي. لكن هذا الرقم ليس مؤكداً فكثير من الحالات غير مسجلة بسبب الجهل بالحالة. وتروي حلاوي تجربتها الشخصية، اذ عرضت ابنها على أطباء كثر كانوا يقولون لها "طولي بالك، بكرا بيحكي". عليه، فإن أبرز أهداف الجمعية نشر الوعي حول هذا الإضطراب الذي ما زال يلفه الجهل والغموض في مجتمعنا. كما تعمل على تقديم الدعم النفس والمعنوي للأهل من خلال تأسيس مجموعات دعم يتشارك الأهل تجاربهم في إطارها.

وتلفت حلاوي أن "مشاعر الأهل الطبيعية تنتقل من الإنكار إلى الغضب إلى الكآبة ومن ثم التقبل. لكن المشكلة تكمن في خجل بعض الأهل من وضع ابنهم". لكن جفال تقول: "ليس هناك ما يستدعي الخجل. على الأهل أن يتعاملوا بكل انفتاح مع الموضوع وأن لا يكذبوا على أنفسهم. الأهم هو أن يحبوا ابنهم ويتفهموه، وهذا نصف العلاج". وهذه تجربتها الشخصية على الأقل. تضيف: "أصعب ما في الأمر هو التعامل مع الكريزة، حيث يصرخ ويضرب نفسه والآخرين، فوجدت أن الحل الأنسب هو أن أضمه إليّ بقوة، وأهزه حتى ينام". وبحسب جفال "يخرج الأمر عن السيطرة حين يعجز الطفل عن التعبير، ويعجز الآخرون عن فهمه".



العلاج بالفن
تطوعت ريم مروة في أحد مراكز علاج التوحد، وقد كان الفن أحد الأساليب المتبعة في علاج أطفال التوحد. "كانت مهمتي أن أعزز لديهم التركيز، من خلال الموسيقى والرقص. أفضل ما في الموضوع أن الفن كان مفتاحي لدخول عالمهم". ومن خلال إيقاع الحركات والموسيقى كانت مروة تدرب الأطفال على "ترتيب أفكارهم". وكان عليهم أن يلحقوا بايقاعها، أو في حالات أصعب أن تلحق هي بايقاعهم.

ورأت مروة أثر عملها هذا من خلال سعادة الأطفال بما تقوم به. لكنها تقول إن "الطفل يمكن أن يتوقف في أي لحظة عن متابعة الصف حتى وإن كان يستمتع به، وكأن عقله غير قادر على إستيعاب المزيد".

increase حجم الخط decrease