الأربعاء 2024/04/10

آخر تحديث: 10:58 (بيروت)

مشاعات الجنوب: القصف لا يمنع الاستيلاء على الأراضي العامة

الأربعاء 2024/04/10
مشاعات الجنوب: القصف لا يمنع الاستيلاء على الأراضي العامة
لن يجرؤ أحد على الاعتداء على الاملاك العامة ما لم يكن نافذاً (المدن)
increase حجم الخط decrease
تُعيد الحرب المتواصلة في الجنوب فتح الكثير من القضايا الإشكالية والمتعلّقة بحقوق الناس والدولة. ذلك أن الأحداث الأمنية وما يرافقها من ضعف أو غياب تام لسلطة الدولة، تسهِّل على النافذين تمرير المخالفات، وعلى رأسها الاعتداء على المشاعات. وهي سمة تطال كل قرى الجنوب، الحدودية منها وغير الحدودية.

واللافت للنظر، أن ملفّ المشاعات يُفتَح ويُقفَل بكلمات سرٍّ سياسية، وبلا أوقاتٍ محدَّدة. ومن غير المستَغرَب، السكوت عن وضع اليد على مساحات هائلة من الأملاك العامة، لعقود، قبل أن يُفتَحَ الملف فجأة دون سواه. وتسترجع الدولة حقّها حيناً، وتُمنَع عن ذلك أحياناً.. وإن بصورة "زعيم" تُعَلَّق على جدار منزل.

الحرب تشجّع الاستيلاء على المشاعات
يعرف أهل الجنوب، كما كل المناطق اللبنانية، كيف لعب الإقطاع السياسي دوراً في الاستيلاء على المساحات العامة في كل لبنان. لكن مع انحسار نفوذ العائلات الاقطاعية، لم يتوقَّف مدّ اليد على تلك الأملاك. فالسلطة التي كانت للإقطاع، قُسِّمَت بين أصحاب النفوذ الجدد من أحزاب وشخصيات ناشئة.

في الجنوب تحديداً، ساعدَ الاجتياح الإسرائيلي في الاستيلاء على الأراضي العامة، منذ العام 1978 حتى العام 2000. وتؤكِّد مصادر متابعة للشؤون العقارية في الجنوب، أن "أشخاصاً كُثراً استغلّوا الاحتلال الاسرائيلي للاستيلاء على المشاعات. وفي ظل الاجتياح الأوسع في العام 1982 نشطت عملية الاستيلاء وتسجيل الأراضي في الدوائر العقارية، بأسماء النافذين، وباتت العقارات ملكاً خاصاً لهم".
وتشير المصادر في حديث لـ"المدن"، إلى أن عملية تسجيل الأراضي "استمرَّت في بعض القرى "حتى بعد الانسحاب الإسرائيلي منها في العام 1985 وتراجعه إلى منطقة الشريط الحدودي. والقرى التي باتت محرَّرة، بقيت تحت سلطة أحزاب الأمر الواقع، بما في ذلك المؤسسات الرسمية، ومنها الدوائر العقارية، فاستمرَ تسجيل الأراضي أو وضع اليد عليها وزراعتها وإنشاء البيوت وما إلى ذلك.
وفي الشريط الحدودي، غطّى ضبّاط جيش لحد عملية الاستيلاء على الأراضي، خصوصاً للمتعاونين معه، فسرق هؤلاء آلاف الدونمات. والمستغرَب، أن تلك الأراضي "جرى تسجيلها بشكل رسمي، ما يشي بامتداد سلطة هؤلاء إلى المناطق المحرَّرة".
واليوم، من غير المستبعَد استغلال الحرب وعدم وجود الناس في أغلب القرى، أو انشغالها في همومها، لوضع اليد على مساحات إضافية، أو إنهاء ملفّات عالقة. وتقول المصادر أنه "من غير الضروري أن يلجأ المستفيدون إلى وضع إنشاءات على تلك الأراضي في ظل الحرب الحالية، فمن شأن ذلك أن يثير انتباه الطائرات ويصبح أي تحرّك في تلك الأراضي، هدفاً للطائرات، لكن من المُرَجَّح أن يتم تفريغ أراضٍ جديدة على الورق في الدوائر العقارية، ولا يتم تغيير أي مَعلَم في تلك المساحات على أرض الواقع، وتُترَك الأمور للزمن، فيُفاجأ الناس بعد سنوات، أن هذه الأرض أو تلك باتت ملكاً لأحدهم".

استعادة المشاعات أمر ممكن
رغم النفوذ السياسي، فإن استعادة المشاعات ممكن عبر القضاء ورفع الغطاء السياسي عن المرتكبين. وأحد أقرب الأمثلة، هو صدور قرار عن الغرفة الاستثنائية الثانية في الجنوب، بتاريخ 2 نيسان 2024، يُثبِت للدولة حقّها بـ1216 دونماً في منطقة الناقورة الحدودية.

أخِذَت تلك الدونمات "في العام 1976. وتم مسح وتحديد تلك الأراضي وتسجيلها باسم جواد طاهر"، يقول رئيس بلدية الناقورة حسن عواضة الذي يضيف في حديث لـ"المدن"، أن "البلدية تابعت الملف منذ سنوات، وحاولت التواصل مع طاهر لإيجاد حل مناسب، لكنه كان يرفض ويصرّ على أن الأرض ملكه". ولا يُخفي عواضة "محاولات الضغط السياسي ودفع الرشى المالية"، لكنها لم تنجح.
القرار القضائي لصالح الدولة، لم يعجب طاهر الذي يؤكّد لـ"المدن"، أنه "سيستأنِف الحكم لأن الأرض ليست للدولة". ويفضِّل طاهر "عدم الحديث مفصَّلاً في الموضوع. لأن البعض يحب القيل والقال. والأمر متروك للقضاء". لكنه أشار إلى أنه "ربحت القضية في وقت سابق، وتم استئناف الحكم ضد القرار. واليوم سأستأنف الحكم الثاني".
هذه الحادثة ستفتح المجال أمام "استعادة البلدية الكثير من الأراضي العامة"، وفق ما يرجّحه عواضة، لأن "البعض سيخاف من القرارات القضائية". وعبَّرَ عواضة عن أمله بـ"مبادرة المعتدين على الأملاك العامة إلى تسوية أوضاعهم قبل الدخول بالمسارات القضائية".

العبرة بالقرار السياسي
الإيجابية التي حقّقتها الغرفة الاستثنائية في الجنوب "لا يمكن تعميمها على كل العقارات العامة المسلوبة"، تقول المصادر. لأن "العبرة بالقرار السياسي الذي يساعد في فتح ملفٍ هنا وإغلاق ملف هناك". وفي السياق، لا تستبعد المصادر "وجود قرار سياسي مرتبط بقضية طاهر. ولا يعني ذلك أنه غير مرتكب، فهذا شأن يقرّره القضاء، لكن بطبيعة الحال، في الناقورة وحدها الكثير الكثير من الاعتداءات على المشاعات، منذ فترة الاحتلال الإسرائيلي وبعده، فلماذا لم تُحَرَّك تلك الملفات؟ ولماذا ملف طاهر دون غيره؟".

في الناقورة كما في كل منطقة الشريط الحدودي "استغَلَّ الكثير من الأشخاص حماية الاحتلال الإسرائيلي وجيش لحد لوضع اليد على المشاعات، ولا قرارات قضائية صدرت بحقّهم ولا دعاوى رُفِعَت في الأصل، حتى من قِبَل البلديات. ودعاوى أخرى رُفِعَت لكن نامت في الأدراج".
وعلى سبيل المثال، تقول المصادر أن "شخصاً في إحدى القرى الحدودية، أقدَمَ في العام 2014 على شراء قطعة أرض، واستحصَلَ على إفادة عقارية لإتمام عملية الشراء. قبل الحرب الراهنة بفترة وجيزة، أراد صاحبها البناء عليها، فتحرَّكَت البلدية لوضع إشارة على الأرض بحجّة أنها مشاع للبلدية. فإذا كانت مشاعاً، كيف تم إصدار إفادة عقارية باسم صاحب الأرض الذي جرى الشراء منه؟ ولماذا لم تتحرّك البلدية قبل ذلك لإثبات حقّها بالمشاع؟ علماً أن الأرض تقع وسط عقارٍ عليه إنشاءات ومزروعات، والأرض التي اشتراها ذلك الشخص، هي الوحيدة التي ليس عليها أي إشغال. لكن القطع الأخرى، يملك أصحابها غطاءً سياسياً من احزاب المنطقة".
وفي قرية ثانية، "قام أحد النافذين بوضع اليد على أرض مشاع بمساحة 17 دونماً، وبنى عليها "فيلاّ". ومع أن أمراً قضائياً صدر بختم الأرض والفيلاً بالشمع الأحمر ومنع الدخول إليها، لكن التنفيذ لم يحصل. ولإثبات قوّته ونفوذه، علَّقَ ذلك الشخص صورة أحد الزعماء السياسيين على الفيلاّ.
هذه الأمثلة البسيطة ليست سوى "صورة مصغَّرة عن قوة النفوذ السياسي الذي يتمتّع به المعتدون على الأملاك العامة. وبطبيعة الحال، لن يجرؤ أحد على الاعتداء على الأملاك العامة ما لم يكن نافذاً ويدرك أن المسار سيكون مفتوحاً من لحظة وضع اليد إلى حين تسجيل الأراضي في الدوائر العقارية، ثم حماية الاعتداء في حال تطوَّرَ الأمر إلى الدعاوى القضائية".

تتعدَّد الجوانب المرتبطة بملف المشاعات. فالكثير من الأراضي العامة تحوَّلَت إلى خاصة، وبعضها تمّ على يد مخاتير وسماسرة ماتوا. أراضٍ أخرى تم تفريغها وتسجيلها بأسماء مُلاّك جدد، ورُفِعَ تصنيفها من زراعي إلى بناء أو صناعي، فحلَّقَت أسعارها. وغيرها أراضٍ عُرِفَت لأجيال على أنها أملاك عامة، ليُفاجأ أهل القرية بأنها مسجَّلة لفلان أو لآخر، من دون حسيب أو رقيب. والمعضلة أن الكثير من المتورّطين بهذا الملف، هُم مخاتير ورؤساء بلديات، أي ممّن يناط بهم حماية الملك العام. وعليه، هذا الوضع قائم وسيطول.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها