الأحد 2014/11/23

آخر تحديث: 13:45 (بيروت)

مايك نيكولز استفز هوليوود وحاكَم أميركا

الأحد 2014/11/23
increase حجم الخط decrease
مايك نيكولز لم يكن يوماً تلميذاً مطيعاً في صفّ هوليوود. بعض السينمائيين يتراجع لديهم الحسّ النقدي كلما تقدموا في السن. نيكولز ظلّ ملتزماً بذاته المشاغبة، وفياً لها، حتى اللحظة الأخيرة من حياته الثرية التي ختمها يوم الأربعاء الفائت عن 83 عاماً، إثر تعرضه لأزمة قلبية. في عمله الأخير، "حرب تشارلي ويلسون" (2007)، يحاكم نيكولز السياسة الأميركية الرعناء، وذلك منذ افتتاحية الفيلم حين يرينا نائباً من تكساس اسمه تشارلي ويلسون اكتشف الصراع الأفغاني الروسي للتوّ، في الجاكوزي مع نساء عاريات الصدر وأصدقاء له يناقشونه في السياسة بين شمّة كوكايين وأخرى.

يحوّل نيكولز، كواليس الديبلوماسية والأمكنة التي تُصنع فيها القرارات الكبرى "ماخوراً" سياسياً. في هذا الفيلم، كان نيكولز قد وجد مناسبة لا تتكرر للكلام عن العلاقة بين الحرب والجنس، الموضوعان العزيزان على قلبه. ولم تكن هذه المرة الاولى، يتصدى فيها نيكولز للسياسة الأميركية، فلنتذكر فيلمه "كاتش 22"، كوميديا سوداء أنجزها العام 1970، تدين الحملة الأميركية في فيتنام، من خلال طيار يترك رفاقه العسكر في أرض المعركة بعد خوضه عمليات جوية خطرة.

كان نيكولز سليل عائلة بورجوازية من روسيا هاجرت في العشرينات الى برلين هرباً من الثورة البولشفية. عندما بلغ مايك سنّ المراهقة، اضطرّت العائلة مرة جديدة الرحيل من ألمانيا هرباً من النازية الصاعدة، كون أمه كانت يهودية. طوال مساره، أنجز نيكولز 18 فيلماً روائياً طويلاً، وهذا عدد ليس بكثير، قياساً بالسنوات الـ50 التي امتدت عليها مسيرته. ترّبع عرش الاستعراض، مسرحاً وتلفزيوناً وسينما، (الـ"شو بيزنس" بالمفهوم الأميركي الترفيهي). حتى عندما صار واحداً من أبرز مخرجي هوليوود، لم يتوقف عن تقديم أعمال جديدة للمسرح (حبه الأول)، كنوع من مداواة لوحي لم يكن يسعفه في كلّ فيلم جديد يقدمه. فمن بين آخر ما قدمه على خشبة برودواي هو "موت بائع متجول" من تمثيل الراحل الآخر فيليب سايمور هوفمان.

مع ذلك، عند الحديث عن نيكولز، يجتاح البال مباشرة عملان أقلّ ما يمكن القول انهما كانا مختلفان عن السائد عند تاريخ خروجهما الى النور، أيّ في منتصف الستينات. الأول، "مَن يخاف فرجينيا ولف؟" اقتباس لمسرحية ادوارد البي، مع أشهر ثنائي في تلك السنوات (ليز تايلور وريتشارد برتون)، جاء اقتراحاً من "ورنر". فنيكولز، المتخرج من الـ"أكترز ستوديو"، كان حينها من أهم ممثلي المسرح ومخرجيه، حدّ ان مجلة الـ"تايمز" اعتبرته عام 1966 "أكثر مخرج مسرحي عرضة للطلب في أميركا". ترّشح الفيلم لـ13 "أوسكار" نال منها خمس جوائز.

"مَن يخاف فرجينيا ولف؟" الذي رُشح لجوائز "أوسكار" عدة، فتح له المجال لأفلام أخرى. بعد أقل من سنة، قدّم نيكولز ما سيُعتبر تحفته السينمائية: "الخريج" (1967)، مع داستن هوفمان وآن بانكروفت (اقتباس لرواية تشارلز وبّ). انها نهاية الستينات والسينما تنتظر من ينتشلها من الكوميديات المكررة بلا رائحة أو لون، والأفلام التي لا تزعج الـ"استبليشمنت". يأتي "الخريج" ليكون صفعة سينمائية لطيفة يضعها نيكولز على وجه السينما الأميركية، فيفوز عنه جائزة "أوسكار" أفضل مخرج. بملصقه الاسطوري حيث يظهر ساق بانكروفت وخلفه الشاب هوفمان بمظهره الأنتي سينمائي، نجح نيكولز في اقناع المُشاهد والنقاد في آن معاً، ولكن للأسف، لن يرتقي الى مستوى هذا الفيلم السينمائي في أي من أفلامه اللاحقة. بالتأكيد، ساهمت أغنية "ميسيز روبنسون" في انتشار الفيلم وجعله يصمد في الذاكرة لمدة طويلة. نجاحه على شباك التذاكر (بلغت ايراداته 40 مليون دولاراً في أميركا) شكّل صدمة ايجابية لأرباب الاستديو. فلا بانكروفت ولا هوفمان كانا آنذاك من نجوم هوليوود. أمّا موضوع العلاقة بين شاب وامرأة ناضجة الذي تدور عليه احداث الفيلم، فبات محل أخذ ورد ومهاترات في مجتمع أميركي لم يكن حسم بعد خياره بين الطهرانية الأخلاقية والانفلات الجنسي.

بعدها بعام، جمع نيكولز جاك نيكلسون وآرت غارفنكل في واحد من أفضل تحدياته السينمائية: "المعرفة الجسدية". الحياة الغرامية لصديقين منذ مقاعد الدراسة وحتى بلغوهما سنّ النضج. مرة اخرى، تصدى نيكولز الى التابوهات الهوليوودية (وفي مقدمها الجنس)، التي كانت ستسقط أكثر فأكثر بدءاً من السبعينات مع وصول ثوار "هوليوود الجديدة". ويمكن القول ان هذه الأفلام الثلاثة، "مَن يخاف فرجينيا ولف" و"الخريج" و"المعرفة الجسدية"، ساهمت في توجيه العقليات السائدة آنذاك حيال الجنس الى مناطق جديدة، معطلةً المفاهيم التي كانت رائجة في زمن "عرف هايز"، بند أخلاقي القى بظلاله على الصناعة السينمائية في أميركا.

كان لنيكولز دائماً مراحل صعود وهبوط. في الثمانينات، لم تقنعنا أعماله كثيراً. في آخرها، قدّم "فتاة عاملة" مع ميلاني غريفيث، أحد الأفلام النادرة في تلك الفترة عن المرأة الموظفة التي تتولى شؤوناً ادارية. غريفيث تضطلع بدور فتاة تستغل غياب مديرة الشركة التي تعمل فيها، لتأخذ مكانها وتوّقع عقداً. "ذئب"، عام 1994، أعاده الى التعاون مع جاك نيكلسون. من خلال حكاية رجل يعضه ذئب فيصبح خارج السيطرة، حصد الفيلم 130 مليون دولار عالمياً، وتحوّل الى واحد من أكثر أفلام نيكولز ايراداً. "قفص الطير" (1996)، وهو نسخة ثانية لكوميديا فرنسية شهيرة من توقيع ادوار مولينارو، أثار حفيظة لوبي المثليين في أميركا، للنحو الذي قدّم فيه المتحولين جنسياً. أمّا ضربة المعلم التي ختم بها التسعينات، فتمثلت في فيلم "برايمري كولورز"، عن التحضيرات للحملة الانتخابية لمرشح الحزب الديموقراطي. حملة تذّكر بتلك التي قادها بيل كلينتون عام 1992 وأوصلته الى البيت الأبيض السنة التالية. مرة أخرى، لم يرحم نيكولز الشخصية التي يقدمها، مصوراً اياها بمظهر المنافق الانتهازي الذي لا يهمها الا الوصول. بيد ان الفيلم ساهم في تعميق صورة الرئيس التبسيطية المتداولة في سينما هوليوود.

عبر نيكولز سنوات الألفين من دون أن يترك خلفه ما يشير الى انه كان أحد أسياد سينما محبوبة ذات حرفة جيدة قبل ثلاثة عقود. "أقرب"، من تمثيل أسماء رفيعة في هوليوود (جوليا روبرتس، ناتالي بورتمان، جود لو، كلايف أوين)، حاول التحرّش والاستفزاز، ولكن، للأسف، في أميركا ما بعد 11 أيلول، كانت سينما نيكولز تحتاج الى أكثر من ذلك لتنهض.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها