الخميس 2015/05/28

آخر تحديث: 13:28 (بيروت)

بيتر واتكنز.. أو الفيلم كتجربة ثورية

الخميس 2015/05/28
بيتر واتكنز.. أو الفيلم كتجربة ثورية
فيلم "لا كوميون" ينتقل من سرد وقائع الكومونة الباريسية ليتحدث عن قضايا راهنة كالبطالة والتمييز الجندري
increase حجم الخط decrease
في أحد الأفلام النضالية خلال فترة الثورة الطالبية الباريسية في أيار/مايو 1968، لا تكتفي الكاميرا بنقل مشاهد التظاهرات المطالبة بتغيير المناهج التعليمية والمواجهات الدامية مع الشرطة والشعارات الثورية التي تملأ جدران المدينة، بل هي أيضاً تحفّز على خوض نقاشات فكرية حول مفاهيم وسبل التغيير.

"إنها البداية فقط، فلنكمل النضال"... يرينا مشاهد بعيدة عن فورة "لحظة" الثورة، فيغوص الفيلم في خضم نقاشات طلاب إحدى كليات السينما حول دور الكاميرا كأداة سياسية، رافضين برنامج الكلية الذي يقتصر على تعليم أكاديمي، ويركّز الفيلم على تاريخ السينما وجوانبها التقنية والجمالية البحتة، فنراهم يطالبون مديرة الكلية باستعمال الكاميرات لنقل الصورة الحقيقية للثورة. وفي مشهد آخر، يناقش عمّال شركة "سيتروين" بعد تنفيذهم اضراباً، حول إمكانية أن يقوم العمّال باستخدام الكاميرا بأنفسهم لنقل مطالبهم بتحسين ظروف عملهم والحديث عن معاناتهم بشكل مباشر، بدلاً من أن يكونوا مجرد متلقّين لأفلام "بورجوازية" تهدف إلى جعلهم يحلمون بعيداً من واقعهم.

التجارب في السينما التسجيلية، التي واكبت تلك الحقبة الثورية في تاريخ فرنسا، أثمرت أفلاماً "جماعية" عديدة، شارك في صنعها تقنيون وسينمائيون مع عمّال ونشطاء. وكسرت تلك الأفلام السياسية والمطلبية، قليلة الكلفة، طرق إنتاج الأفلام وتوزيعها آنذاك، فكانت تُصنع بأدوات تقنية بسيطة وتوزع في الجامعات والمعامل لتكون محركاً لعملية التغيير.

مُنطلقاً من روح الأفلام التسجيلية الثورية في الستينات والسبعينات، قام البريطاني بيتر واتكنز، وهو من أكثر المخرجين السينمائيين فرادةً، بصنع أفلامه الوثائقية "الهجينة"، حيث المزج بين الخيال والواقع. كان واتكنز يؤمن بأن الفيلم أداة للتغيير السياسي والإجتماعي. وحورب واتكنز وهمّش من قبل الشركات السينمائية الكبرى ومحطات التلفزة، لأنه رفض، كما يقول، صنع أفلام معلّبة في قوالب جاهزة ومحدودة، تهزأ من المشاهد وتعامله كمتلق غبي فتقرر عنه ما يجب أن يحس أو يفكر.

في أوائل تجاربه السينمائية، تخيّل واتكنز هجوماً نووياً على لندن، فصوّر مشاهد أبوكاليبتية لأناس يحترقون في حالات من الذعر والهلع بأسلوب التصوير التلفزيوني للخبر الصحافي.

"لعبة الحرب" الذي صُوّر العام 1966، كان ردّ فعل سياسياً عنيفاً ضد عملية التسلح النووي في أوج الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي حينها. واتكنز اعتبر أن السلطات السياسية ووسائل الإعلام المتواطئة معها تقصي الناس عن الحوار الجاد حول مخاطر التسلح النووي. فأراد، عبر فيلم "خيالي" (من حيث الشكر) أن يدفع الناس العاديين في بريطانيا إلى التفكير في ما تقوم به حكومتهم. وقد رفضت "بي بي سي" وقتها عرض الفيلم على شاشتها، متذرعة أنه قد يخلق حالة غير مبرّرة من الهستيريا بين البريطانيين. في هذا الفيلم بدأت تتجلى ملامح الأسلوب السينمائي الخاص بواتكنز، اذ طلب من المئات من سكان أحد أحياء لندن تجسيد شخصيات الفيلم. ويقول واتكنز أنه بدأ بخطاب أمام سكان الحي، شرح خلاله فكرة الفيلم وأهمية الموضوع بالنسبة لهم ولحياتهم ومستقبل أولادهم، وطلب منهم المشاركة بشكل فاعل ،لا كممثلين. ثم تحدث مع بعضهم لكي يجسدوا شخصيات معينة كشخصية شرطي أو ممرضة. لم يكتب واتكنز حوار الفيلم بل طلب من الناس التعبير عن مشاعرهم الشخصية وأفكارهم.


واللافت أن أداء الناس كان حقيقاً بشكل مدهش بالنسبة إلى أشخاص لا يحترفون التمثيل ويقفون أمام الكاميرا للمرة الأولى. ما نجح واتكنز في صنعه هو خلق إطار متخيّل لفيلمه، مستعيناً بعناصر الفيلم الروائي من ديكورات وأصوات ومشاهد، ثم قام باستنباط ردود أفعال الشخصيات الحيّة الناتجة عن تفاعل طبيعي، بين بعضها البعض ومع عناصر هذا الإطار.

في فيلم آخر، هو "حديقة العقاب" من إنتاج 1971، استطاع واتكنز تطوير أسلوبه الهجين لخلق مواجهة في صحراء كاليفورنيا بين مجموعة من الشباب المناهض لحرب فيتنام، ومجموعة من الأميركيين المحافظين. وفي هذا الفيلم أيضاً، خلق واتكنز إطاراً خيالياً عن مستقبل قريب، يشبه عوالم الروائي جورج أورويل الديستوبية (من ديستوبيا). فتخيّل محاكمات الشباب الذي كان ينادي حينها بالعدالة الإجتماعية وإنهاء الحرب وتعديل النظم الإقتصادية على أيدي لجنة مؤلفة من شخصيات تدافع عن النظام الرأسمالي وعن الحرب، وتنادي بالتشدد مع الناشطين اليساريين. واستعان واتكنز بأشخاص عاديين لا يحترفون التمثيل، للقيام بأدوار تشبههم في حيواتهم الخاصة. وطلب منهم ارتجال الحوارات بناء على آرائهم الخاصة. هكذا، تتولد في الفيلم طاقة حقيقية، تزيد من حدتها العناصر التمثيلية، ووجود رجال شرطة يعنفون الشباب ويقتادونهم مكبّلين إلى داخل خيمة المحاكمات. وهذه الأجواء سمحت بخلق جو من التوتر تتصاعد وتيرته مع احتدام المواجهة بين التقدميين والمحافظين. ويطرح الفيلم، بالطريقة هذه، أهم القضايا السياسية والإجتماعية والإقتصادية في الولايات المتحدة وقتها.

وُوجِه الفيلم آنذاك انتقادات لاذعة، لأنه صوّر الولايات المتحدة وكأنها بلد فاشي، وهو لم يوزّع/يعرض إلّا في عدد قليل من الصالات هناك. وربما أكثر أفلام واتكنز الهجينة نضوجاً هو فيلم "لا كوميون" حول "الكومونة" أو ما يسمى الثورة الفرنسية الرابعة في 1871 بين شهري مارس/آذار ومايو/أيار، حين عاشت مجموعة من الباريسيين حقبة قصيرة اختبرت خلالها بدايات الديموقراطية التمثيلية الحقيقية، بالإضافة إلى التفكير في المساواة بين المرأة والرجل والتعاونيات الإقتصادية والإتحادات العمالية.

وفي إعادة إحيائه لتجربة كومونة الفرنسية، لم يرد واتكنز صنع فيلم وثائقي تاريخي بالمعنى الكلاسيكي إذ أنه رفض إعطاء قراءة واحدة للتاريخ لا تقبل الجدل. فقرر العمل مع مجموعة من مئتي فرنسي طلب منهم أن يقوموا ببحوث شخصية حول تلك الفترة بهدف تجسيد شخصيات وهمية لكنها تشبههم ويعبّرون من خلالها عن آرائهم الشخصية. وهنا أيضاً، خلق واتكنز إطاراً وديكوراً بسيطاً داخل مصنع مهجور في ضواحي باريس وألبس الشخصيات ملابس من تلك حقبة القرن التاسع عشر. وصوّر واتكنز الفيلم بحسب تسلسل أحداث الكومونة، لكي يحس المشاركون في الفيلم وكأنهم يعيشون فعلاً مراحل تلك الثورة الفرنسية.

من الواضح أن الناس الذين يؤدون أدواراً مختلفة، يصلون إلى مرحلة من التعاطي مع الأحداث وكأنها تعنيهم فعلاً. وربما السبب هو طريقة واتكنز في التصوير إذ يطلب دائماً من الشخصيات النظر في الكاميرا والتعبير عن آرائهم بشكل طبيعي ومباشر. وهو يقول أن أفلامه تؤثر في الناس لأنها أفلام "جماعية"، تعطي الكلمة للشخص العادي الذي هو مهمّش عادة من قبل الأنظمة السياسية ووسائل الإعلام.

واللافت في الفيلم الذي أنتج العام 1999، ومدته خمس ساعات و45 دقيقة، أنه ينتقل من سرد وقائع الكومونة الباريسية والأفكار التي كانت تناقش حينها، ليتحدث عن قضايا حالية منها البطالة وعدم المساواة بين المرأة والرجل في مجالات العمل والمهاجرين الجزائريين وغيرهم من المهاجرين غير الشرعيين. فرغم أن الفيلم يعالج حدثاً تاريخياً، فهو يتعاطى مع التاريخ من منطلق فهم الماضي بهدف التفكير في الحاضر والمستقبل. ويصوّر واتكنز في الفيلم نقاشات الشخصيات حول النظام الإقتصادي الحالي وكيفية تغييره ليكون أكثر عدالة.

وهنا العنصر الأساس في أفلام واتكنز، إذ أنه يخلق مساحة للنقاش السياسي والإجتماعي في غياب لتلك المساحة في المجتمعات الغربية حيث الأفراد، كما يقول واتكنز، يعيشون في عزلة فكرية لا تسمح بطرح جدّي لأسئلة وجودية ضرورية حول ظروف عملهم والهدف من الأنظمة الإجتماعية والإقتصادية التي تقيّدهم. فالفيلم هنا يسمح للأفراد بالتفاعل مع بعضهم البعض لانتاج أفكار جديدة وثورية في ظل عصر الإستهلاك وغياب الأيديولوجيات.

فكما يقول الفيلم في مشهد من مشاهده: "خوف النظام من حلول أصواتر متعددة مكان الصوت الواحد داخل الشاشة الصغيرة".



(*) هذا النص هو خلاصة ورقة قدمها الكاتب، ضمن "مهرجان الأفلام مزج" (الفيلم التسجيلي من زاوية أخرى)، والذي أقيم في صالة "زاوية" في القاهرة خلال الشهر الجاري بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها