الجمعة 2017/05/05

آخر تحديث: 13:19 (بيروت)

ترامب يحيي جدلية "مدرسة نهر هادسون".. وعالَم اختفى

الجمعة 2017/05/05
increase حجم الخط decrease
شهدت الأسابيع الماضية عودة للتظاهرات والإعتراضات في شمال الولايات المتحدة ضد مشروع إنتاج أنبوب غاز ضخم سيصل ولاية داكوتا بالأراضي الكندية. ويقول مناهضو المشروع أنّه يؤذي الحياة البرية والخصائص الطبيعية للمناطق التي يمرّ بها. وقد أُعيد العمل بالمشروع بقوة مع وصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة، فمن المعروف أنّ الرئيس الجديد، بعكس سابقه، يضرب عرض الحائط بكل الإعتبارات البيئية من عملية الإحتباس الحراري إلى ضرورة حماية البيئات الطبيعية، بحجة دفع العجلة الإقتصادية إلى الأمام وخلق فرص عمل.

لكن بعيداً من الشقين الإقتصادي والبيئي، فإن ما يخفيه الجدل القائم هو استعادة لمفهوم عنصري وفوقي، كان قد ميّز حقبة التوسع نحو الغرب في القرن التاسع عشر والمعروف بأيديولوجية "القدر الجلي"، ‪(Manifest Destiny) وهو مفهوم يعتبر أنّ الأميركيين لديهم حقّ ربّاني بالتوسع الجغرافي غربي نهر المسيسيبي للسيطرة على كامل الأراضي الواقعة من المحيط إلى المحيط. وتحت هذا الشعار، شرد الأميركيون البيض من أصول أوروبية، الملايين من سكان القارة الأصليين وأبادوهم. وقد عكس الأدب والفنّ الأميركي وعزّزا على مدى عقود هذا المفهوم، قبل أن تأتي السينما في القرن العشرين، لترسخ فكرة هذا الحق الإلهي بالسيطرة على الأرض عبر المئات من أفلام الوسترن.

وقد ربط العديد من المحللين بين انتخاب ترامب وعودة مفهوم "القدر الجلي" إلى الواجهة، وقالوا إنّ شعار "جعل أميركة عظيمة من جديد"، أعاد إحياء ذلك الجزء من الذاكرة الجماعية الأميركية، الذي يعتبر كل ما هو أميركي (وهنا المقصود ضمنياً العنصر الأبيض) ليس فقط متفوقاً على غيره من الإثنيات والشعوب، بل أيضاً صاحب حق ربّاني في الأرض الأميركية.

الربط بين كل تلك العناصر ومشروع أنبوب داكوتا، يعود إلى أنّ بعض الأراضي التي يمرّ بها المشروع هي أراضٍ تعود لجماعات من الأميركيين الأصليين، والمضي به هو إحتقار لتلك الجماعات وحقّها بتقرير مصيرها، خاصةً أنها تعتبر إرتباطها بالأرض والطبيعة من المقدّسات.

لعلّ العمل الفني الذي يكرّس بامتياز تلك الأيديولوجية العنصرية، بكل ما تخزّنه من صور رمزية، هو لوحة لجون غاست تعود للعام 1872 بعنوان "التطور الأميركي". وتصوّر اللوحة مجموعات بشرية من العرق الأبيض، تتوجه نحو الغرب ويضعها الفنان تحت شمس دافئة وهي تجلب معها الزراعة والصناعة إلى المناطق التي تمرّ بها. وفي تفاصيل تلك المسيرة، قطار بخاري وحيوانات مدجّنة تساعد في زراعة الأرض وجرّ العربات. وتقود تلك المسيرة من موقعها في السماء، "كولومبيا"، وهي الإلهة/الرمز للحضارة الأميركية بفستانها الأبيض الفضفاض والكتاب الذي تحمله. وفي اللوحة أيضاً، تخرج من كتاب "كولومبيا" خيوط تتحوّل إلى أشرطة كهربائية تجلب النور إلى الأراضي البرّية التي تمرّ بها. وفي مقابل ذلك، نرى في الزاوية الأخرى من اللوحة، مجموعة من السكان الأصليين وهي تقبع في الظلام خائفة تتراجع أمام مسيرة الرجل الأبيض "التحضريّة"، وتحتوي تلك الزاوية المظلمة أيضاً على حيوانات بريّة كالدببة والثيران الأميركية (البيسون)، والمقصود هنا أنّ السكان الأصليين ليسوا إلّا برابرة يجب إزاحتهم لكي تنتشر الحضارة في البلاد. والملفت في اللوحة عدم وجود أي إشارة للسلاح وكأنّ عملية السيطرة على الغرب حصلت كفعل إلهي أو طبيعي لم تهدر فيه قطرة دمّ.

مع انتهاء الحرب الأهلية الأميركية، وبدء عملية بسط سلطة الدولة على كافة الأراضي الأميركية، كان يجب ترسيخ الهوية الوطنية وخلق صور جامعة لفكرة الوطن الواحد في أذهان الأميركيين. وقد ساعد الفنّ في هذا الأمر وبخاصة مجموعة من فناني مدرسة نهر هادسون ‪(Hudson River School‪) وأسلوبهم الفني الذي بدأ في منتصف القرن التاسع عشر ويندرج ضمن الأسلوب الرومانسي. غالبية لوحات تلك المدرسة، هي عبارة عن مناظر طبيعية خلّابة مرسومة بأسلوب دراماتيكي يمجّد العوامل الطبيعة والطبيعة البريّة. وإحدى أهمّ اللوحات التي أنتجتها تلك المدرسة، والموجودة في متحف بروكلين في نيويورك هي: "عاصفة في جبال الروكي، قمّة روزالي" (1866)، للفنّان ألبرت بيرستات. وفيها استخدم إضاءة مسرحية وأدخل عوامل مناخية مبالغ فيها وغيّر من حجم الجبل والعناصر المحيطة به لخلق صورة تعظّم المشهد وتجعله أكثر دراماتيكية.

وقد رأى البعض في لوحات مدرسة نهر هادسون، دعوة للأميركيين للسفر إلى بقع البلاد النائية والإحساس بفخر قومي بعظمة الطبيعة الأميركية، خاصةً وأنّ تلك الفترة هي، كما ذكرنا، طبعت بسياسة "تطويع" كامل الأراضي الأميركية ونشر "الحضارة" في كل مكان. فكان الفنانون يصوّرون سكان مناطق الوست أو الغرب الأميركي بطريقة رومانسية وكأنّهم شعوب بلا ثقافة ذاهبون نحو الزوال.

لكن في المقلب الآخر، اعتُبرت تلك اللوحات من البعض دعوةً للحفاظ على الطبيعة بعذريتها بعيداً من الأنشطة الصناعية والإقتصادية، فعدد من اللوحات كانت بمثابة تأريخ بصري لمناطق طبيعية مهدّدة بالزوال، وبذلك فإن فنّاني تلك المدرسة، يُعتبرون نوعاً ما من النشطاء الطليعيين في المجال البيئي. وقد ذهب أحد رسامي المدرسة الهدسونية، واسمه توماس كولز، أبعد من ذلك، عندما استعمل الرمزية للتعبير عن إحساسٍ بانهيار وشيك للحضارة، ما هو ملفت في ذاك الزمن المتفائل، فرسم كولز مجموعة من اللوحات بعنوان "مراحل الإمبراطورية"، وهي سلسلة من لوحات عديدة تظهر صعود الإمبراطورية وأفولها من طور برّي خام إلى مرحلة الإزدهار ومن ثم مرحلة الإنحطاط والزوال.

الكاتب الأميركي، بول أوستر، أعاد إلى الذاكرة رسوم المدرسة الهدسونية في كتابه "قصر القمر" ‪العام 1989، لينبش أزمة وجودية دفينة عند الأميركيين تتعلّق بعلاقتهم المعقّدة بالإنتماء إلى الأرض و"المؤسسين الأوائل" للوطن الأميركي. فعبر قصّة فتى يبحث عن والده، ينقل أوستر قرّاءه من نيويورك (رمز للحضارة بأوجها) إلى صحراء اليوتاه، حيث الإنسان في مواجهة لا مفرّ منها مع نفسه وأصوله. ويضع أوستر فنّ المدرسة الهدسونية في قلب كتابه ليتحدث عن "ماكينة" الربح الرأسمالية التي اجتاحت كامل الأراضي الأميركية وقتلت الأسرار العميقة التي تكتنزها تلك الأرض.

وفي أحد فصول الكتاب، يذهب ماركو، بطل الرواية، إلى متحف بروكلين ليتأمل لوحة "هدسونية" لرالف بلايكلوك بعنوان، "ضوء القمر" (1885) وهي لوحة نوستالجية لعالم شبه مثالي، تُظهر من بعيد خيالات لمجموعة من السكان الأصليين في حالة من الصفاء والتناغم تحت ضوء القمر. ويقول ماركو عند رؤيته لها: "تلك اللوحة تدافع عن كل شيء فقدناه. هي ليست مشهداً، هي نصب تذكاري، أنشودة موت لعالم اختفى".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها