السبت 2015/05/23

آخر تحديث: 11:13 (بيروت)

"التحضّر العشوائي" أو شَدّ وجه القاهرة!

السبت 2015/05/23
increase حجم الخط decrease
فور اعتلائه العرش أعلن الخديوي إسماعيل عن مشروع ضخم لتنمية القاهرة، ليثبت للعالم أن بلاده ليست من إفريقيا وإنما "هي من الآن فصاعداً قطعة من أوروبا"!

نفذ اسماعيل فكرته. وقرر أن يجعل القاهرة مقراً لحكمه الدائم بدلاً من القلعة. أحدث تحولات كبيرة في المدينة التي كانت حتى قبل توليه بسنوات قلائل تحمل كافة سمات المدينة الإسلامية التقليدية... نسيج ملتحم كثيف، تتخلله "الحَواري" الضيقة المليئة بالبروزات والتعرجات، ولم يكن هناك سوى شارع واحد صالح لمرور العربات هو شارع الموسكي.

شق الشوارع العريضة وملتقيات الطرق والميادين وأنشأ المدارس والمسارح وغيرها من المنشآت متعددة الطراز، حقق نقلة هائلة في المنشآت العمرانية وظلت مآثره المعمارية خاصة في منطقة وسط القاهرة مثار حديث العالم. غيّر إسماعيل الوجه العمراني لمصر حتى أن علي باشا مبارك وصف انتشار المباني الأوروبية في عهده فقال: "من يدخل القاهرة الآن وكان قد دخلها من قبل أو قرأ وصفها فى كتب من وصفوها في الأزمان السالفة فلا يرى أثراً لما ثبت في علمه، ويرى أن التغير كما حصل في الأوضاع والمباني وهيئاتها حصل في أصناف المتاجر وفي المعاملات والعوائد وغيرها من أحوال الناس".

لكن عجلة الزمن دارت، تاركة آثارها في تلك البقعة الفريدة في قلب القاهرة، أهملت المباني... اندثر بعضها أو احترق أو أزيل بلا رحمة لصالح "مولات" ومبانٍ حديثة منقطعة الصلة بالتراث العمراني لمصر، أصبحت تثير الأسى بعدما كانت مثار حسد، وما تبقى طاولته العبقرية المصرية في الإهمال والتخريب.

شهدت المنطقة على مدار تاريخها الطويل محاولات عديدة للتطوير والإنقاذ، لكنها كانت ما تلبث أن تعود لسيرتها الأولى مضافاً إليها بعض الخسائر، وحالياً تشهد عملية إعادة إحياء جديدة ربما تكون الأضخم، خاصة بعد رصد 500 مليون جنيه لانجازها.

المشروع كان قد بدأ بشكل مصغر في العقارات التي تملكها شركة الإسماعيلية (شركة مساهمة بها عدد من رجال الأعمال أبرزهم سميح ساويرس وصندوق دعم خليجي)، وتوقف مرات عديدة لتعثره ماديا، ثم توقف تماما بسبب ثورة 25 يناير، إلى أن عاد مجددا وبقوة بعد 30 يونيو بمشاركة المحافظة وبعض البنوك والملاك. بدأ الأمر بحرب طويلة الأمد مع الباعة الجوالين الذين احتلوا المنطقة مستغلين الفراغ الأمني الذي حدث بعد الثورة، وحولوا جدران المنطقة التاريخية لفتارين لعرض الملابس الداخلية، أو مخازن ومنازل مؤقتة، انتهت بعد عدة جولات بنقلهم إلى جراج الترجمان، ثم الانتهاء من جراج التحرير ومنع "ركن" السيارات بوسط البلد، بعدها بدأ العمل على المباني نفسها في عملية ممتدة لاستعادة الوجه القديم للمنطقة التاريخية.

المرحلة الأولى التى انتهت مؤخرا شملت تطوير ممر الألفي وميدان عرابي وترميم بعض العمارات التاريخية ذات الطراز المعماري المتميز. وحاليا يجرى ترميم العقارات التراثية الموجودة في شارع طلعت حرب وما زال العمل جاريا في تطوير الأرصفة وتوسيعها وتشجيرها، بالتوازي مع شارع قصر النيل. والهدف الأساسي من المشروع، كما تقول مديرته سهير حواس، في حوارها مع جريدة "منطقتي" المهتمة بمنطقة وسط القاهرة، هو إحياء الوجه الحضاري للمدينة وبالتحديد منطقة القاهرة الخديوية التي تعتبر ذات أهمية كبيرة وقيمة تراثية مهمة.

تؤكد حواس أن التطوير يعني ترميم الواجهات وإعادتها للشكل الأصلي مع تطوير الأرصفة وتوسيعها وتشجيرها وإضاءة الشارع وفق نظلم جديد "وهذا يشمل مستويات، وليس كما يقال مجرد تجميل وفرشاة دهان فقط، فما يتم هو ترميم فني صحيح وفقا للتصميمات الأصلية لتلك المباني". لكنها تعود لتقول في الحوار نفسه أن هناك صعوبات كبيرة "للتطوير" داخل المباني نفسها، "فهناك العشرات من الأماكن المؤجرة كمخازن يجب أن يقوم أصحابها بإعادة ترميمها من الداخل واستثمارها بما يفيد".

لو تجولت الآن في المناطق التي تم الانتهاء منها ربما ستشعر بالفخر، إنجاز حقيقي، فرصة لتأمل فن العمارة في متحف مفتوح، لكن لا تحاول أبداً أن تدقق في التفاصيل، أو ترى هذه العمارات من الداخل أو حتى تتجول في الشوارع الجانبية، لأن المسألة هناك مختلفة تماما. وقتها فقط ستكتشف أن "الترميم" طمس الكثير من النقوش، و"التطوير" كالعادة لم يتعدّ تغيير القشرة، من الخارج فقط.

علينا أن نعترف بأن المسألة ليست بسيطة، الأمر معقد بالفعل، فالمنطقة لم تعد كما كانت، وإعادتها تعنى ببساطة نسف كل ما علق بها من مبان وسكان خلال كل تلك العقود الطويلة، وهو أمر مستحيل تقريباً.

فى رواية "قدر الغرف المقبضة" يتساءل عبد الحكيم قاسم عن منطق امرأة فقيرة تحكى عن بيتها، الذي سوف تكمل بناؤه: "لم يكن عبد العزيز يستطيع رغم جهد مركز، أن يتصور كيف يمكن أن يكون هنا بيت. كان الأمر بالنسبة إليه أن الغرفتين أقيمتا كيفما اتفق، ثم نصب أمامهما المرحاض والفرن والصنبور. أما أن يكونا جزءاً من خطة أكبر فإن ذلك كان عصياً على فهمه. لكن المرأة تؤكد له هذا. تنبش الخطوط بقشه في طين الأرض. ترسم الجدران وتربع الغرف ويتشكل البيت فى نهاية الأمر..".

ظل بطل الرواية يتساءل عما ينقصه ليتقبل هذا التصور "إنه تصور قبيح ومبتذل ومتكرر في عشرات البيوت الصغيرة ذات الدور الواحد فى هذه الحارة. وهو تصور غير مبتدع بل منقول وسينقل بعد ذلك مئة مرة في تكرار قاتل ممض".

لم يكن الأمر يحتاج من بطل رواية عبد الحكيم قاسم إلا القليل من الخيال و"العشوائية" وهو كل ما كانت تملكه تلك المرأة، لتخط على الطين بيتاً وتتخيله مختلفاً، رغم تكراريته ورغم انه ليس بيتاً بالمعنى المتعارف عليه. في ذلك الحوار عبّر عبد الحكيم قاسم، أفضل تعبير عن فكرة "التحضر العشوائي" كما رصدتها د.جليلة القاضي، إحدى أبرز المهتمين بعمارة القاهرة، في كتابها المهم الذي يحمل الاسم نفسه.

كتبت جليلة عن تلك التجمعات العشوائية التي نمت على أطراف المدن، أو حتى فى داخلها، والتصقت بها رغماً عنها، لتجعل من القاهرة بالتحديد نموذجاً فريداً لأنها ألغت الحدود بين المدينة العشوائية والمدينة التاريخية، وبذلك أصبحت المدينة عبارة عن "متصل عشوائي" يمتد من المركز حتى الأطراف. وبالتالي فإن مفهوم "العشوائية" في مقابل "التخطيط" يصبح في القاهرة ضرباً من الخيال ومسألة تطويره ستظل مفهوماً نظرياً لا يطابق الواقع.

المحصلة والنتيجة النهائية التي وصلت إليها جليلة هي بالضبط ما يحدث في وسط القاهرة الآن فإعادة التهيئة أو التطوير يشبه محاولة "تزويق" امرأة عجوز وقبيحة، وإذ أضفى هذا "الزواق" تحسيناً طفيفاً على المظهر الخارجي لتلك المرأة، فهو لن يواري دمامتها واهتراءها الداخلي ولن يعالجهما أو يلغيهما. كما يمكن لعمليات شد الجلد أن تزيل التجاعيد التي لا تلبث أن تظهر ثانية وتستلزم تدخلاً جديداً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها