الإثنين 2024/02/26

آخر تحديث: 13:39 (بيروت)

"تلات ستات".. حكايات عاملات الجنس في ليالي القاهرة

الإثنين 2024/02/26
"تلات ستات".. حكايات عاملات الجنس في ليالي القاهرة
increase حجم الخط decrease
منذ الصفحات الأولى، حدد الكاتبان محمد العريان وعمر سعيد، الإشكاليات التي واجهت كتابهما "تلات ستات...سيرة من ليالي القاهرة"، عن تفاصيل حياة "عاملات الجنس التجاري في مصر"، ليس فقط تجهيزات أو تحضيرات الفكرة التي بدأت بالأساس كتقرير صحافي وفيلم تسجيلي وتحولت لكتاب مع الوقت، لكن حتى الإشكاليات المتعلقة بطبيعة الموضوع نفسه وطريقة معالجته، أي الإطار العام الحاكم لكتابهما.

لكن قبل الخوض في تفاصيل الكتاب، تجدر الإشارة إلى ملاحظة مهمة تخص توصيف بطلاته. والواضح أن المؤلفين استقبلا هذا السؤال كثيراً، حتى إن محمد العريان كتب إجابة مفصلة في صفحته في فايسبوك، قال فيها إنه طُلب منه بالفعل تغيير مسمى "عاملات الجنس التجاري" لعاهرات أو مومسات، وكان رده إن لفظ عاهرة حُكم، صورة ذهنية تحمل إدانة وبالتالي تستبعد أي تعاطف إنساني، كما أنه لفظ يحمل تعالياً، والأهم أنه يرى فعلا أنها مهنة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

بلا أحكام أخلاقية
لم يتعمق المؤلفان كثيراً في العقبات اللوجستية المتوقعة بالنسبة لموضوع بهذه الحساسية، لكنهما قالا إن العمل مع النماذج التي اختاراها للكتاب، كان صعباً لأن السيدات المعنيّات اضطررن لاستجرار صدمات عشنها منذ عقود والتمعن فيها إلى "حد أن بعض المواقف كن يدركن معناها في اللحظة التي يروين تفاصيلها لنا". كان من الصعب كذلك إخراجهن من حالة التبرير أو ما سمّاه المؤلفان بـ"الموقف الدفاعي"، رغم أنهما اتفقا من البداية على التدوين من دون أحكام أخلاقية، أو وصم اجتماعي، أو تصنيف ديني وقانوني. بل العكس هو الصحيح: نبذ كل ما قد يشكل حكماً أخلاقياً على العاملات بشخصهن وصفتهن، واعتبار "العمل في الجنس التجاري" عملاً غير منظم، ما يجعله عرضه للكثير من الانتهاكات والجرائم، وأخيراً تقديم خصوصية العاملات في الإنتاج الثقافي أو الصحافي المنشود.

أشارا كذلك إلى العقبات التحريرية التي أجبرتهما على تعديل بعض الألفاظ والعبارات التي تصنف "بالخارجة"، ووضع رمز النجمة على حروف بعض الكلمات لتجاوز العقبات القانونية. لكن الأهم أنهما لم يتمكنا من تحديد وتصنيف الكتابة نفسها: هل هي كتابة توثيقية؟ أم أدبية تحافظ على الأسلوب السردي الممتع والحكاية؟ شغلتهما أدق التفاصيل إلى حد اعتبار استخدام ضمير المتكلم مثلاً تغولاً لدورهما كصحافيَين وافتراءً رجالياً على قصة بطلاتها نساء. واتفقا في النهاية على أن "هذه الكتابة ليست مشغولة بتصنيف نفسها"، فالكتاب ليس تصوراً خيالياً ممزوجاً بالواقع، ولا يقدم سرداً أدبياً لعالم خيالي أو مستلهم من الواقع، بل جاء كما أرادا له أن يكون "في سياق السيرة الذاتية الأدبية، أو السيرة الأدبية، تلتزم بالحقيقة كمعيار، لكن أيضاً تمتد خطوط الأدب بسرد فيه بعض الخيال الملتزم بأمانة الحقائق". وهو ما يمكن ملاحظته بطبيعة الحال في اختلاف تعامل الكاتبين مع "خط الأدب" وأسلوب وطريقة تناول كل منهما للحكاية، لكنه على أي حال خيال لا يجمل الواقع أو يغلفه بإطار يخفف وقعه، فقط يرسم المشهد الذي يعري واقعاً ننكره أو على الأقل لا نريد أن نعترف بوجوده.

صوت العاملات
الإشكاليات التي طرحها الكتاب لم تتوقف عند هذا الحد. فبعد دوامة من الحيرة، داهم المؤلفَين سؤالٌ أساسي: مع من نريد الحديث؟ فهناك أشكال كثيرة ومعقدة للعمل في الجنس التجاري، وهناك أيضاً طبقات، "بعض من قابلناهن لم يتعد دخلهن في أفضل الأحوال بضعة آلاف من الجنيهات شهرياً، البعض الآخر يتحصلن على هذا المقابل من زبون واحد. بعضهن يعملن لدى قوادين، والبعض الآخر يعملن وحيدات، وأخريات يعملن ضمن مؤسسات عائلية"، أخيراً وقع اختيار الكاتبين على ثلاثة نماذج تنتمي للفئة الأدنى دخلاً والأكثر عرضة للمخاطر.. "سمرا" في العشرينيات من عمرها، أمّ عزباء وتعمل مع قوادين أو صالات رقص، و"عفاف" أربعينية وأمّ لأربعة أبناء وعملت في الجنس التجاري خارج مصر، وأخيراً "انشراح" الستينية الموظفة والعاملة في صالة للألعاب الرياضية.

اتفق المؤلفان كذلك على استخدام "صوت العاملات" في الحكي، خشية الوقوع في فخ الاغتراب عن البطل، أو الابتعاد عن المشاعر الإنسانية المعقّدة المتخمة بها الحكايات "خصوصاً أننا سننقل أحاديث عن مشاعر وجسد وتجارب من المستحيل الشعور بما تجلبه إلا لمن عاشها". وحسنا فعلا، فمن ذلك الصوت يسهل التفاعل مع قصص من هذا النوع من دون توجيه وعظي أو نظرة الراوي الفوقية.

طرف الخيط
تقول إحداهن خلال حكايتها: "أحياناً أعود لهذه النقطة، أتذكرها جيداً، حادث واحد إذا لم يحدث كانت المسارات كلها اختلفت، أتمنى أن أعود بالزمن لهذه النقطة التي يمكن أن أسيطر عليها، أن أغير مصيري، حادث واحد كان يمكن أن يقلب كل شيء". من هنا يمكن الإمساك بطرف الخيط الرابط بين حكايات الكتاب كلها، ويتجسّد في سؤال واضح عن مدى السيطرة الحقيقية لبطلات الحكايات على مصيرهن، إلى أي درجة كان يمكنهن فعلاً تغييره وتحويل مساره؟ 
ما الخيارات المتاحة أمام "سمرا" الطفلة الخائفة من الرجوع لأسرة متسلطة أجبرت خطيبها على هجرها والزواج بابنة عمها أمام عينيها، خصوصاً بعد هروبها وتسكعها في شوارع القاهرة ثم الوقوع في براثن قوادة تدير بيتاً للمتعة؟ ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم تكن أمّها غريبة وضعيفة، بل ماذا لو تمسك بها حبيبها من الأصل ولم يستجب لتسلط أسرته؟ ما الخيارات أمام "عفاف" التي شبت داخل أسرة تعتدي جنسياً على نسائها وتزوجت بمن يجامع أخريات في منزلها؟ أو "انشراح" التي استخدمت أسرتها جسدها سلماً للصعود الاجتماعي ولإنقاذها من الفقر وأشباح التبطل؟

رأيت الأجساد كلها 
ربما لم تكن لأي منهن سيطرة فعلية على مصيرها، وربما حادث واحد كان كافياً بالفعل لرسم طرق أخرى مغايرة. لكن، ورغم تشابههن في الوقوف تحت مظلة الفقر والوصول لنتيجة متقاربة في النهاية، إلا أن مساراتهن كانت مختلفة. المسارات المتشعّبة أثرت كثيراً في مراحل التحوّل والوعي بإمكانية استغلال الجسد، والشعور بالقدرة على الغواية والسيطرة على الرجال، وهو ما أدركته "سمرا" الفلاحة متأخرة، ربما بسبب حداثة السن وقلة الخبرة وطبيعة الانتقال من مجتمع ريفي مغلق إلى القاهرة الواسعة، بعدما مرت بطريق طويل أعدته لها قوادة متمرّسة علمتْ من البداية ما يمكن أن تجنيه من ورائها. وفي بيت المتعة ذاك تعرفت بالمشاهدة على ما يمكن أن يفعله الإغواء، لتنسلخ عن جلدها القروي وسذاجتها، وتحصل على نسخة جديدة منها، باتت تعرف كيف تقدم جسدها على طاولة المتعة، ووصلت إلى حد تحدي معلمتها نفسها: "تعاملت مع الرجال بالحيلة ومعرفة ما يريدون، كأني في مطعم أطبخ للزبائن ما يريدون، وما يجعلهم يأتون مرة أخرى جائعين وفي فمهم مذاق جسدي"، ومع الوقت عرفت كيف تستغل نقاط الضعف والضغط في اللحظات المناسبة على الوتر المناسب "رأيت الأجساد كلها، بأخطائها ومشاكلها، بعيوبها وتفاصيلها العجيبة، وأعضائها المخفية عن العيون، وكما هو مسموح للزبائن مسموح لي أيضاً أن ألمسهم، أقرصهم، أخربشهم وأعض ما يصل لأسناني. بشهوة أحياناً وغل وغضب غالباً". مراحل طويلة وقاسية مرت بها لتصل إلى نسختها الأخيرة، وحيدة ومكلومة ومطاردة "أنا سمرا الجديدة.. عنيفة.. أنانية.. لا تهتم لأحد.. لا أحد في الكون غيري.. أنا الغريبة".

بعكس انشراح التي أدركت مبكراً، بسبب تحفيزات الأم، ما يمكن أن تناله لو أحسنت استخدام جسدها، فبعد تحقيق رغبات الأسرة انتبهت إلى ما يمكن أن تحققه لنفسها، تحدّث نفسها فتقول: "هذا الجسد يمكن أن يعطيني ما أريد، كل من يعرفني استغله، أمي وزوجي وحسام، كلهم استخدموا جسدي لمصلحتهم، كلهم رأوا فيه ما لا أراه، الآن أمتلكه أنا، أستغله لمصلحتي، أحقق به أحلامي، أو على الأقل لا أتركه في يد أحد غيري". وأدركت أيضاً ما هو أبعد "ما يحدث يداعب بداخلي شهوة السيطرة على الرجال، شعور جميل أن لدي إمكانات تجعلني أنثى شقية ومرغوبة وكلمتي مسموعة، و... مستمتعة".

لكنها كانت في الأصل تبحث عن الحب، حب افتقدته من الأم والأب ومن الزوج الذي لا يريد إلا جسدها ومرتبها الشهري، لذا عندما انفجرت في النهاية في وجه الأم المسؤولة من وجهة نظرها عن كل شيء، لم تستطع أن تخفي غضبها أو أن تسامح: "غضب يملكني، يوجهني، غضب من كل شيء، من حياتي وضعفي، من تحملي لأوضاع سيئة سنين، من فرص ضاعت ولم أستغلها، من قرارات لم أصر عليها، وطلبات لم أرفضها، من الهروب دائماً، من الخوف الذي ورثته عن أبي، الخوف من أمي، والخوف من الهجر، والخوف من المواجهة، من أن أعيش وحيدة بلا حب بلا رفيق، أبحث حولي، لا أحد يهتم لأمري، حتى أولادي لا يعرفونني إلا لمصلحتهم، لا أحد في الكون يريدك أو يحبك بلا مقابل كما أنت". 

لحظة الرعب 
بسبب عملها في ورشة خياطة واحتكاكها المبكر بالرجال وبسوق العمل، كانت عفاف، النموذج الثالث، أكثر وعياً بقيمة جسدها "أنا أحب جسمي وأعرف أنه حلو. دلوقتي عندي 32 سنة لو وصلت 40 حتى الشغل ده مش هلاقيه". كما أن تجربتها مغايرة، إذ عملت خارج مصر بلا حماية من ظهر تعرفه جيداً أو تثق فيه، لذا استخدمت ذكاءها وحيلتها، وحاولت أن تنفرد وتتميز بما تقدمه لتظل مرغوبة ومطلوبة لأطول فترة ممكنة: "كنت أعمل بحب وأستمتع. كان هذا رزقي وعملي، تعلمته وحسنته، وأضفت له ما لم تفعل امرأة". لكنها، في منولوغها الداخل،ي تعود لتلوم نفسها على الشعور بالسعادة أحياناً، تقول طوال الوقت إنها مرغمة ومضطرة لتوفير نفقاتها ونفقات أولادها، وعلى أي حال فإن لحظات السعادة لم تدم بطبيعة الحال فكثيراً ما زارتها لحظات الندم ثم تحوّلت بعد ذلك إلى تهديدات مباشرة ألقتها في جحيم أكبر وأشد "أتت لحظة الرعب الأكبر، عرف أولادي".

لا يلقي الكتاب الأحكام، لا يدين أو يبرئ.. فقط يطرح أسئلة ويلتزم بحياد الحكاية، وعلى كل متلقٍّ أن يقرأ ويفكر ويحكم كإنسان، لا كقاضٍ أو جلاد.

(*) "تلات ستات سيرة من ليالي القاهرة" لمحمد العريان وعمر سعيد، صدر مؤخراً عن دار المرايا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها