الأحد 2024/01/28

آخر تحديث: 08:36 (بيروت)

"رقص في الظلام" لأوفه كناوسغارد... عالم المراهقة المشوّش

الأحد 2024/01/28
"رقص في الظلام" لأوفه كناوسغارد... عالم المراهقة المشوّش
خرج من "عش البيت الدافئ" إلى "العالم الكبير المتسع"
increase حجم الخط decrease
توقف الكاتب النرويجي كارل أوفه كناوسغارد في الجزء الثالث من سداسيته الشهيرة "كفاحي" عند مراحل الطفولة الأولى وبدايات الشباب. وفي الجزء الرابع من السلسلة "رقص في الظلام" نتابعه في مرحلة مراهقته، ففور إنهائه المدرسة الثانوية، يذهب كارل أوفه إلى قرية نائية على ساحل النرويج الشمالي لكي يعمل فيها معلما، ليوفر قدرا من المال يساعده على بداية رحلته مع الكتابة. 

الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية في نحو 600 صفحة كعادة أعمال كناوسغارد، يقدّم عالم المراهقة المشوش بأدق تفاصيله حساسية؛ التمرد، والتسكع، والشرب، وحتى الممارسات الجنسية الفاشلة والمذلّة في معظمها والتي يتمحور حولها أكثر أجزاء الكتاب، حيث نرى العالم من منظور ذلك المراهق الذي يبحث عن اكتشاف نفسه بعيدا عن سلطة الأسرة، خرج من "عش البيت الدافئ" إلى "العالم الكبير المتسع" على حد وصف أمه، وإن عادت هي نفسها لتشكك في كون البيت عشاً دافئاً بالفعل، في إشارة للعلاقة المتوترة على الدوام بين كناوسغارد ووالده، والتي شرحها تفصيلياً في الأجزاء السابقة وأضاف إليها فصولا جديدة في هذا الجزء أيضاً.

الحقيقة والخيال
حكايات تنبض حيوية وطرافة وصدقا! رغم أن من وصل إلى هذا الجزء ربما لم يعد يعنيه كثيراً إن كان كل هذا حقيقياً أو متخيلاً، فبعد 3 أجزاء تجاوز عدد صفحاتها 1600 صفحة فهو غارق تماماً في عالم كناوسغارد المدوخ ولن يتوقف أمام مثل هذه الأسئلة، لأنه بات يعرف أيضا أن المراوحة بين الواقع والخيال، أو الواقع المطعم بقليل من الخيال، جزء أساسي من أسلوب كناوسغارد وأحد أسباب شهرة سداسيته، وقد شرح أكثر من مرة في الأجزاء السابقة أسباب لجوئه إلى هذا الأسلوب رغم ما جرّه عليه من متاعب، حيث يرى أن العالم غرق تماماً في الخيال، فلم يعد هناك شيئاً حقيقياً.. ملايين الكتب والمسلسلات والأفلام، جميعها عن أشخاص مختلقين تحكي عن عالم مختلق، صيغ مكررة تحاصرنا في كل مكان، وبالتالي تراجعت المسافة التي تفصله عن الواقع، وصار العالم كله يقدم نوعاً من "الإنتاج بالجملة". لذا كفَر بهذا الإنتاج كله، ولم تعد للكتابة القصصية والروائية أي قيمة عنده: "الجنس الأدبي الوحيد الذي أرى فيه قيمة، الذي لا يزال يحمل معنى، هو المذكرات واليوميات والمقالات".


لكن بغض النظر عن التصنيف فإنه في هذا الجزء من الكتاب يستغل الأمر أفضل استغلال ويتنقل بالزمن بكل سلاسة، يكتب في الزمن الحاضر، ثم يقفز للخلف عدة قفزات ليحكي عن حياته من سن السادسة عشرة إلى الثامنة عشرة، ثم يشير إلى رواية كتبها عن تلك السنة التي قضاها معلما في شمال النرويج -لعله يقصد رواية "خارج العالم"- يقول إنه كان مندفعا من غير أن يعيد النظر في أي شيء، ولم يلق بالاً إلى العلاقة بين الخيال والواقع، لأن العالم انفتح أمامه عندما جلس للكتابة: "كانت رواية مؤلفة من وصف للناس الحقيقيين، وللمباني الحقيقية، لأن المدرسة في الرواية هي المدرسة مثلما كانت عندما عملت هناك. وكان في الكتاب أيضا أشخاص متخيلون ومبان متخيلة. لم أسأل نفسي كيف سيستقبل الناس هذه الرواية هناك، في الشمال، إلا بعد أن كتبتها ونشرتها" كان مرتعباً من استقبال الناس الذين تحدث عنهم في الرواية، الأبطال الفعليين الذين يعرفون بالتأكيد الفرق بين الحقيقي والمتخيل، لكنه تجاوز الأمر تماما بعدها، ففي "رقص في الظلام" يحكي عن الفترة الزمنية نفسها ويستمر في تلك المراوحة، بل يصحب مجموعة من أبطاله القدامى إلى هذا الكتاب أيضا، فيصف كيف استقبلت إحداهن ما كتبه عنها وعن مدينتها في الكتاب القديم، كأشخاص حقيقيين داخل قصته الجديدة الحقيقية/ المتخيلة، وكأنه يسقط الجدار كليا بين الحقيقي والمتخيل أو يستغل التقنية نفسها مرتين! 

الحياة في مكان آخر
كره كناوسغارد الإفراط في الخيال وأحب العوالم المتداخلة، والمسارات الجانبية، والحكاية داخل الحكاية، لذا فإنه يفضل "مئة عام من العزلة"، و"الحب في زمن الكوليرا" لماركيز، وأيضاً كتب الروائي جان كيارستاد المفعمة بأجواء الشرق وألف ليلة وليلة، على كتب التشيكي ميلان كونديرا الذي اعتبره كاتبا ما بعد حداثي لا تتسع كتابته لعوالم أخرى "الحبكة الروائية ليست إلا حبكة روائية، والشخصيات ليست إلا شخصيات، أي أنها شيء اخترعه بنفسه، وتعرف أنها غير موجودة، فلماذا يكون عليك أن تقرأ عنها؟". بالنسبة له كانت لديه حياة واحدة وعالم واحد يعرفه وهو ما يستحق أن يكتب عنه.. هو نفسه!

رغم صعوبة المرحلة السنية التي يحكي عنها في هذا الجزء وتشوشها الطاغي إلا أن كناوسغارد يظهر وكأنه يعرف ما يريده من البداية، حدد هدفه، وبنى اختياراته كلها وفقا للمسار الذي أراده، بداية من تعاملاته الشخصية وحتى الكتب التي يقرأها، يقول إنه منذ تلك الفترة المبكرة من حياته كره كل سلطة، وكان خصماَ لمجتمع الحياة المنظمة الذي ترعرع فيه، ولقيم البرجوازية والنظرة المادية للبشرية، لم يكن مهتما بالمال ولا بالمكانة الاجتماعية "كنتُ موقناً بأن القيمة الجوهرية في الحياة كامنة في مكان آخر"، لذا ازدرى ما تعلمه في المدرسة حتى ما اتصل منه بالأدب الذي يعشقه، كان يؤمن فقط بأن كل ما كان في حاجة إلى معرفته موجود في الكتب التي يقرأها وفى الموسيقى التي يستمع إليها ويختارها بنفسه. كانت اختياراته كلها لكتب تشبهه، كتب عن شباب يجدون صعوبة في التلاؤم مع المجتمع، ويريدون من الحياة ما هو أكثر من الروتين الممل للحياة العادية.. يريدون ما هو أكثر من أسرة وعائلة ووظيفة. باختصار: "شباب يمقتون قيم الطبقة الوسطى ويرومون الحرية. شباب يسافرون، ويسكرون، ويقرأون، ويحلمون بهوى حياتهم العظيم، أو بكتابة روايات عظيمة.. أردت كل ما أراده أولئك الشباب".

أما الموسيقى فهي الخيط الذي يجمع ذكرياته ويربط حياته كلها معا، وكلاهما -الكتب والموسيقى- في المرتبة الأولى على سلم الأولويات عنده "يرغب الجميع في سترات جديدة وبيوت جديدة وشاليهات جبلية جديدة وسيارات ومقطورة جديدة من أجل الرحلات، وقوارب جديدة أيضا. لكنني لست مثلهم. أنا أشتري الكتب والتسجيلات لأنها تقول شيئاً عن معنى الحياة، وعما يعنيه أن يكون المرء بشرياً هنا على كوكب الأرض".

سأصير ما أريد
كان معنى الحياة الحقيقية بالنسبة إليه أن يعيش كما يحب، أن يستمتع بحياته، أراد الارتحال عبر أوروبا، والنوم على الشواطئ، وفي الفنادق الرخيصة، ومصادقة العابرين، لكنه كان يدرك أيضا أنه سيحتاج للمال لذا فكّر في العمل وعمل بالفعل في عدة وظائف في مصنع لباركيه الأرضيات وفي مستشفى للأمراض النفسية وقدم بعض الكتابات الصحافية لصحيفة محلية، لكنها لم تكن إلا وظائف عابرة لأنه لم يكن يقبل بعمل يستنفد طاقته كلها ويأكل روحه، كانت مجرد عوامل مساعدة لخدمة ما اختاره من البداية.. أن يكتب. وفي المكان الذي ولد ونشأ فيه لم يكن كثيرون يقدرون مثل هذه الأفكار أو يدركونها من الأصل، لكنه كان يعلم أن هناك دوائر تراه وتقدره حق قدره "إلى تلك الدوائر كنت متجها". ابتعد عن المؤسسات التعليمية التقليدية ولم يذهب للخدمة العسكرية، بل إلى مكتب العمل حيث طلب قائمة بوظائف التعليم الشاغرة في شمال النرويج "صار الناس الذين التقيتهم في آخر ذلك الصيف يقولون لي: سمعنا أنك ستصير معلما يا كارل أوفه. كنت أجيبهم: لا. سوف أصير كاتبا".

(*) صدرت "رقص في الظلام"، عن دار التنوير، ترجمة الحارث النبهان.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها