الأربعاء 2015/06/17

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

القاهرة- بيروت- مكة- الدار البيضاء.. ومنطق المشروع العملاق

الأربعاء 2015/06/17
increase حجم الخط decrease
في آب/أغسطس 2014 أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي البدء في مشروع عملاق لحفر محور جديد لقناة السويس، وعد بإنجازه في عام واحد ليحول مستقبل مصر.

أنشىء حساب خاص لتلقي الأموال من الشعب للتنفيذ، وفي أيام كان الهدف قد أنجز، وجمع الحساب المليارات المطلوبة حتى قبل أن يفهم الناس طبيعة المشروع. ومن وقتها لم تتوقف الزيارات الاستعراضية، ولا محاولات التكهن بالمستقبل المبهر الذي يعد به المشروع.

أسابيع، وتُفتتح القناة الجديدة، وبينما التطلعات الوطنية موجهة نحو المشروع في محاولة لبيع الأمل، يفكر الناشط محمد الشاهد باتجاه آخر، في الإذعان السياسي للجماهير وفي القلق الدائم لسكان بورسعيد تحت وطأة المشروع العملاق.

الشاهد أحد المهتمين بالعمارة، خصوصاً عمارة القاهرة، وأسس من أجل ذلك مشروع "مشاهد القاهرة" أو "cairobserver"  الذي بدأ كموقع ثم مطوعة صدرت منها ثلاثة أعداد، ومؤخرا صدر عددها الرابع الذي يدور تقريبا حول الفكرة التي يطرحها الشاهد في مقالة الذي احتل الصفحات الأخيرة من العدد، والواضحة بشكل أكبر في الافتتاحية التي تلخص أهداف العدد الجديد: "إنه مشروع يتخذ من الحاضر مركزاً. هدفه أن يفضح ويفهم رؤى صنع المدينة من أعلى إلى أسفل، والتي دفعت قدما خلال مرحلة "الثورة المضادة" التي تلت الانتفاضات العربية من المحيط إلى الخليج، بدأت الحكومات موجة من المشاريع العملاقة في السنوات الأخيرة تزيح مسائل "الشعب" و"الجمهور" وتقصي مطالب ثورات 2011 وهي تشمل مشاريع البنية التحتية الانتقامية وتطوير مجمعات تكون بمثابة نماذج حالية للاستعراض السياسي، والاقتصادي، والنفوذ الأيديولوجي في المنطقة".

حكايات وتحليلات عميقة يضمها العدد الذي يعتبر بمثابة نقلة في مسيرة المطبوعة التي تتبنى تقديم أنماط بديلة لإنتاج المعرفة حول المدن، خصوصاً أنها –للمرة الأولى- تتخطى حدود مصر، والقاهرة بالتحديد، وتوسع نطاق التحليل خارج حدودها، فالنطاق الجغرافي الذي يشمله العدد هو الشرق الأوسط العربي وشمال إفريقيا والمناطق والمدن المتصلة مثل الدار البيضاء والقاهرة وبيروت وعمان وبغداد ودلهي، وحتى الدوحة، ويوحد المساهمات عدد من الموضوعات الرئيسة، تشمل مسائل التدفقات الرأسمالية الجديدة، والأجهزة الأمنية، وصعود ما يسمى بالمشروع العملاق.

في العودة لمقال الشاهد حول قناة السويس الجديدة، نجده يتتبع بدقه تحولات المدينة ومراحل الانحدار والركود التي حدثت منذ خمسينات القرن العشرين، وبالطبع المشاريع المتعلقة بالقناة والتي كانت السياسية في خلفيتها على طول الخط. يقول إنه، طيلة العقد الماضي، وضعت تصورات للحصول من القناة على حد أقصى من الأداء والدخل، الذي يمكن أن تولده الدولة المصرية، وكان يفترض من الخليج أن يمول مثل هذه التصورات، تحديداً الاستثمار السعودي والإماراتي، حيث تأخذ موانئ دبي العالمية الدور القيادي بتوليها بناء المرافق الرئيسية حول القناة وإداراتها. لكن، بعد بدء الثورة المصرية العام 2011، شقّت قطر طريقها إلى مخطط قناة السويس الاستراتيجي الواعد بجزيل الربح. وبعد سقوط الإخوان المسلمين، عادت المملكة العربية السعودية والإمارات إلى البروز بوصفهما الداعمين الماليين الرئيسيين للخطة، وهذا ما لم يطّلع الجمهور أبداً على تفاصيله.

المقال الذي يرصد العديد من الأشكال العدوانية ضد معمار المدينة –وأشجارها- بدوافع التحديث والتطوير، يشير إلى نقطة مهمة وهي أنه غالباً ما افتقد سكان بورسعيد سبل المشاركة في العمليات السياسية والبلدية التي تعطي بيئتهم شكلاً. وكانت هذه الظروف سبباً كافياً لكثير من الشباب للهجرة إلى مدن أكبر، بحثاً عن فرص، خصوصاً بعدما تجاهلت السلطات بياناتهم المتعددة لوقف العدوان على مدينتهم. المحصلة النهائية التي يصل إليها الشاهد يلخصها في فقرة ختامية يقول فيها: "تُخرس السلطات وحلفاؤها أي شكل من أشكال الانتقاد عبر استعراض منطق المشروع العملاق، والحرب على الإرهاب، وتقديمها على الدوام الحاكم (أياً يكن) كرجل كلّي العلم، يبني المستقبل، ويرى ما وراء تفاصيل الحياة اليومية. والنتيجة النهائية صناعة للقلق في المناطق المدنية، حيث يزيل باستمرار ماضي المدينة ويجعل حاضرها فوق التحمل، ويظل مستقبلها في أيدي عدد قليل من الذين يتمنون لو لم يقف سكان مدنيون في طريق المشروع العملاق".

الأمر نفسه يتكرر في بيروت فعبر فكرة "صورة القبل والبعد" يرصد حاتم الحبري التحولات التي طاولت المدينة، وكيف تستخدم فكرة "القبل والبعد" غالباً في خدمة أنظمة سياسية واقتصادية تتخطى سياق المنطقة. يقول: "إن نشر مثل هذه الصور من قبل سوليدير، الشركة المسلّطة على منطقة وسط بيروت، وتضررة جدا من الحرب الأهلية، ليُبرز التناقضات المبلورة في صورة القبل والبعد".

التناقض الأساسي لهذا النوع من صور القبل والبعد، كما يرصد المقال، ليس بين حالتي مكان قبل وقوع الدمار وبعده، بل بين حالتيه قبل حدوث الإعمار الرامي إلى ترميم المدينة المتضررة وبعده، هذا يعني عملياً أن "البَعد" في أصل نشر صور القبل والبعد هو "تخريف" من رأس المال.

يستشهد الكاتب بكتاب إيال وإيناس وايزمان "قبل وبعد: توثيق عماره الكوارث"، مستكشفاً كيف يمكن أن يستخدمها الذين يسعون إلى توثيق الفظائع والكوارث وتحليلها، في سبيل اتخاذ الأدلة الشرعية وسيلة لمحاسبة المقتدرين على جرائمهم "والحال أن حالات مثل مشروع سوليدير تسلط الضوء على الإطار الزمني للإعمار قبلا وبعدا أكثر منه للدمار. بمعنى ما ثمة إشكال في الادعاء أن مشاريع مثل سوليدير هى مشاريع "إعادة إعمار" إذ ترمي أساسا إلى استحداث أطر سياسية وقانونية، وبني تحتية مادية، ودورات مالية مفيدة لرأس المال العالمي".

لكن كيف يمكن للمشاريع المدنية العملاقة أن تزعزع فهمنا المشترك للسياسة العربية؟
الإجابة يحملها مقال كونراد بوغارت، حول الحالة المغربية ويمكن تطبيقها على الأمثلة العربية المشابهة. يقول بوغارت إن سياسة المشاريع العملاقة تثير تساؤلات مهمة من شأنها زعزعة طرق فهمنا للقضايا الأعم كالعلاقة بين العولمة ودول مثل المغرب، أو بين الرأسمالية العالمية والأماكن المحلية مثل الدار البيضاء. يضرب المؤلف المثل بمشاريع عملاقة داخل المغرب، منها مارينا الدار البيضاء، ومول المغرب، ومنتجع أنفا بلاس ليفنج وكلها تعيد تشكيل البيئة المدنية بقوة "هذه الثورة المدنية يمكن أن تموضع في سياق عملية أكبر من تحقيق الليبرالية الاقتصادية والتكيف البنيوي، والإصلاح الليبرالي الجديد. أدت المدن المغربية دوراً مهما في هذه التحولات، ليس فقط من حيث زيادة تسليع الأراضي في المناطق المدنية كوسيلة لاستخراج الأرباح وتحقيق النمو، بل كذلك بوصفها مختبرات مدنية لتطوير طرائق جديدة للحكم، والسيطرة والهيمنة".

يصل المؤلف إلى أن التحولات السياسة المرتبطة بالمشاريع الضخمة هي أمثلة بارزة تعبر عن كيفية تحويل السلطوية في المغرب –وغيرها- بالطرق التي يتزايد وفقها تداخل مصالح النخب الحاكمة والنخب الاقتصادية المحلية، إن المشاريع المدنية العملاقة خلافاً لوعودها اليوتوبية لا تحل الأزمة المعاصرة في المنطقة، ولكن تعيد إنتاجها بطرق مختلفة.

التحولات طاولت مكة أيضاً، وبشكل موسع. فالمشاريع التي تجري تحت مسمى تحسين البنية التحتية للحج، من أجل استيعاب العدد المتزايد من الحجّاج، غيّرت شكل المدينة الدينية، بل وطبيعة الشعائر نفسها. ففي مقالها، تقول روزي بشير إن مشاريع الإعمار الربحية غيّرت من تجربة الحج في العصر الحديث، كما غيرت الشعائر الإسلامية، فقد زاد التباين الطبقي وخلقت "مجتمعات مغلقة" تمكّن المتعبدين الأثرياء من النأي بأنفسهم عن الحشود، "في الواقع، لن يكون على أولئك الذين يستطيعون تحمل تكلفة شقق يتراوح سعرها بين أربعة وخمسة ملايين دولار، أو دفع مبلغ يبدأ من ثلاثة آلاف دولار في الليلة لغرفة فندق، سماع بقية الحجاج أو شمهم، أو لمسهم، أو الاقتراب منهم". لكن الأهم أن تلك المشاريع العملاقة تسببت حتى الآن في إجلاء الآلاف من السكان في مركز مدينة مكة، من طبقات اجتماعية واقتصادية مختلفة، وقد تسلم هؤلاء –بحسب كاتبة المقال- تعويضاً هزيلاً، من دون أن يكون لهم ملاذ قانوني، وانتهى الأمر ببعضهم في أحياء فقيرة لا تبعد أكثر من ميل واحد عن الحرم، تحجبهم "أبراج البيت" وغيره من البنايات الكبيرة عن عيون الزوار.

نعود إلى القاهرة مجدداً، حيث تشرح منى أباظة مفهوم "الحق فى المدينة" الذي تم تنفيذه عقب ثورة يناير، حيث احتلت الأماكن العامة في المدينة من قبل شريحة واسعة ومهمشة على نحو شبه دائم، ولاتزال معارك الشوارع مستمرة حتى الآن.

هذه الصور المأساوية لـ"المدن" حقيقية بالتأكيد، لكن هناك حقائق اجتماعية تتعلق بإمكان الأماكن العامة أن تقدم لروادها الأمل لا البؤس والموت فقط، الملفت أن يكون ذلك في العراق، فبحسب مقال ياسين رعد يقدم شارع "أبو نؤاس" صورة بديلة للفضاء العام، يذكر بالعصر الذهبي للشارع الشهير، وكيف يوفر –حتى لو جرت عسكرته- موقعا للجماعات الناشطة تحيي فيه المناسبات العامة متحدية الصورة السائدة المتصلة بالعنف والعسكرة لتغير واقع مدينتها الكئيب. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها