الجمعة 2015/07/03

آخر تحديث: 14:05 (بيروت)

"رجال مجانين": الحرب والإستهلاك لا يمنعان الروحانية والحرية!

الجمعة 2015/07/03
increase حجم الخط decrease
على مدى ثماني سنوات، نقلت سلسلة "رجال مجانين" (Mad Men في إشارة إلى شركات الإعلانات التي انتشرت في جادة ماديسون في نيويورك في الستينات) بكثير من التأني والتفاصيل دور الإعلانات في خلق صورة حديثة وعصرية للمجتمع الأميركي وحياكة نماذج جماعية مثالية لأدوار الأفراد فيه وحاجاتهم ورغباتهم وتطلعاتهم. ورأينا دون درايبر، شخصية صانع الإعلانات الغامض وهو يعجن تدريجياً فكرة الحاجة إلى السلعة كعامل نفسي واجتماعي أكثر منها حاجة ملموسة أو حقيقية وهذا في زمن ازدهار إقتصادي شهدته الولايات المتحدة في الستينات كان ولا يزال أحد محركاته الأساسية هو عملية الإستهلاك. 


ومع إنتشار الصور البرّاقة للعائلة النموذجية في صفحات الإعلانات، رأينا من جهة أخرى الواقع المتخبط للمجتمع الأميركي في تلك الحقبة في معالجة مسائل العرق وحقوق الإفريقيين-الأميركيين وحقوق المرأة. منذ بداية عرض السلسلة في العام 2007، كان دون درايبر، وهو الشخصية الرئيسة في السلسلة، يتصارع داخلياً مع هاجس ماضٍ أليم يطارده رغم نجاحاته المهنية. تدريجياً يكتشف مُشاهد السلسلة أن هذا الماضي مرتبط بالحرب في كوريا في الخمسينات حين تسبب درايبر بمقتل قائد سريته، وعندها آثر تغيير اسمه وخلق شخصية جديدة له ذات ماضٍ غير محدّد المعالم، ليصبح بذلك نموذج الأميركي الذي وصل إلى نيويورك بلا سمعة ولا مال مع هدف وحيد هو النجاح والثراء في عالم لا يكترث بهوية الفرد أو ماضيه، بل فقط بقدرته على الصعود إجتماعياً ومهنياً. (والمثير للاهتمام هنا أن جينيريك البداية هو رسم لشخص يهوي من الطوابق العليا من ناطحات السحاب النيويوركية) وقد بدت شخصية درايبر أيضاً وكأنها تعكس بشكل ما، روحية الولايات المتحدة بتناقضاتها المتجددة بين خفة الحياة الهانئة في الداخل (كصورة أكثر منها كوضع ملموس) وثقل واقعها الحربي بآلامه وفظائعه في الخارج منذ الحرب العالمية الثانية.

واللافت في تلك السلسلة هو نجاحها في رسم المعالم والتحولات النفسية للشخصيات فيها إذ تعكس بإتقان تأثر الأفراد بالتغييرات الجذرية التي طرأت على الهياكل الإجتماعية وأهمها مؤسسة الزواج والعلاقات والهرميات داخل المؤسسات التجارية في فترة الستينات. ويشعر المشاهد أن السلسلة تروي عملية صناعة الفرد الأميركي الذي يبحث عن مكان له ضمن العقد الإجتماعي الجديد والذي تبدت معالمه في تلك الحقبة. فبموازاة الأحداث المعقدة للسلسلة والتحولات التي تطرأ على شركة الإعلانات والتي تبتلعها شركة عملاقة في نهاية المطاف، يبدو التركيز على وحدة الفرد والصعوبة التي تواجهه في خلق علاقات صداقة أو حب طويلة الأمد. في "ماد مان" ذلك الطوق إلى نجاح أكبر، معاش أعلى، مقتنيات أكثر، يترافق لدى الشخصيات مع فراغ عاطفي وروحاني.

وبينما تفشل الشخصيات على الصعيد الشخصي والإنساني، نراها تبحث عن خلاصها عبر نجاح مهني سقفه الأفق. ففي تلك الفترة التي تُوجت بالصور التلفزيونية لصعود أول إنسان إلى سطح القمر، كانت تتبلور فكرة الحلم الأميركي حيث لا شيء مستحيل ولا شيء يقف أمام نجاح الفرد مهما كان ماضيه.

 


ومع عودة كابوس الحروب الأميركية إلى الواجهة بدخول الولايات المتحدة وحول حرب الفيتنام، تتفاقم تلك التناقضات بين صناعة الحلم الأميركي من ناحية والواقع الملطخ بدماء الحرب من ناحية أخرى، وبين الإستهلاك الامتناهي والبحث عن الملذات من جهة، والبحث عن قيم بديلة غير مادية من جهة أخرى وهذا ما جسدته موجة الهيبيز حينها.

مع وصول السلسلة إلى ذروتها، نرى درايبر هارباً من عالم الإعلانات البرّاق في عملية بحثٍ في الذاكرة وعن الذات. والملفت أن المسلسل يقترح أنّ درايبر يكتشف راحة البال بين أناس لا يشبهونه وبالتحديد بين مجموعة من الهيبيز، قررت أن تعزل نفسها على شواطئ بيغ سور في كاليفورنيا. ففي المشهد الأخير من السلسلة نرى درايبر مغمضاً عينيه وهو يجلس في وضعية اللوتس عاقداً رجليه ويردد المانترا أوم (التي ترتبط بصوت الخلق في مصطلحات اليوغا).

لكن قصة درايبر لا تنتهي هنا. فبعض دلائل السلسلة تشير إلى أن درايبر لا ينتهي به المطاف فعلاً باعتناق فلسفة جديدة غير مبنية على المادية. فهو على غرار الباقين في لحظة التأمل الأخيرة تلك، يرتدي ملابسه الإعتيادية وليس الأثواب الفضفاضة المستوحاة من الثقافة الهندية.
 


كما أن عملية التأمل تنتهي بمشاهد لإعلان كوكا كولا الشهير من العام 1971، وكان حينها الإعلان الأعلى كلفة في التاريخ. والمُقترح هنا أن درايبر يعود إلى لعب دوره في شركة الإعلانات أي إلى وظيفته ضمن النظام الرأسمالي. وهو يعود فيصنع هذا الإعلان الذي يُظهر مجموعة من الشباب والشابات من أعراق وإثنيات وجنسيات مختلفة، يغنون بتناغم على قمة تلة خضراء والشيء الوحيد الذي يجمعهم هو زجاجة الكوكا كولا. وتقول إحدى مقاطع الأغنية في الإعلان: "أريد أن أعلّم العالم الغناء بتناغم مثالي".

 
وكأن تلك اللحظة هي لحظة تمخض الصراعات العرقية في الستينات مع استنتاج بقيمة الفرد كمستهلك بغض النظر عن لونه أو جذوره أو وضعه الإجتماعي. لكنها أيضاً أشبه بلحظة إدراك جماعي أن الولايات المتحدة تستطيع الجمع بين ثقافة الإستهلاك والمادية وبين البعد الروحي والمبادئ المجردة كالحرية والمساواة التي توحي بها داخلياً وعالمياً في عملية إلغاءٍ لشعور الذنب من الكيان الجماعي.

ولعلّ اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، نرى الولايات المتحدة تتصارع مع ما يبدو أنه حالة من السكيزوفرينيا كتلك التي تصفها السلسلة. ففي وقتٍ تقوم الدرونز (الطائرات الصغيرة التي تحلّق بلا طيار) رسمياً بالقضاء على الإرهاب (وفي الوقت نفسه تتسبب بمقتل العديد من المدنيين في باكستان وأفغانستان)، تسوّق شركة كوكا كولا لفكرة أنّ زجاجتها "الأيقونية" تبعث السعادة في جميع أنحاء العالم. في واحد من إعلاناتها الأخيرة، نرى بضع قطرات من الكوكا كولا تتساقط على أشرطة كهربائية في محطة ضخمة في الولايات المتحدة لتزويد العالم بشبكة الإنترنت، تتسبب ببعث موجة غامرة من السعادة في العالم. 

(*) الموسم السابع - 2015 هو الأخير، ويختتم السلسلة، وقد بات متوافراً "دي في دي" في الأسواق اللبنانية  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها