الإثنين 2015/04/13

آخر تحديث: 01:25 (بيروت)

في شقاء النزول من البوسطة

الإثنين 2015/04/13
increase حجم الخط decrease

 

أعرف أنّ ما تقوله لي ديمة صحيح. لكنني أعاند وأكابر، وقبل أن تتابع أستبق نصائحها بالإعتصام بأحقيّة المعاندة. وكالعادة أبدأ جملتي بـ "في هذا العمر يحقّ لي..." وكالعادة تستنكر ديمة لجوئي إلى حجّة "العمر" الذي أفترض أنه يمنحني عفوا وحججا وسماحا عن مساوئي. تجيبني دفاعا عن نفسها، لخوفها من أن أكون قد أصبحت فعلا في "ذلك" العمر، هي الخائفة من عمري مثلي.

الآن أحبّ كثيرا أغلاطي. أحبّ أن أتبنّاها بدل أن أصحّحها. بعض مساوئي صار يشبهني كولد لي. وأن أغيّر فيها بات يشبه أن أتنكّر لدور الأمّ السامي، بحسب التعاليم. كأنّ غربة ما ستتسلّل إلى كياني حالما أبدأ بتصحيح أغلاطي، نفسي، غربة ستقع على أجزاء قضيت عمرا أشدّها إلى بعضها وأشكّ في التصاقها الناجز. قرّرت، ربما بدافع التعب، أو الكسل، أنّي أكثر ضعفا من عمليات التصحيح، وأنّي، هكذا، أفضّل سلوك البغل الذي يحرن ويقف ليدقّ حوافره في الأرض. ويبغّل. ولا يعود لحبل الرسن ولا لمن يشدّ به إلاّ المزيد من الثبات وضرب الحافر عند كلّ نترة ساعد أو قضيب على الرأس. ويوما قال لي فؤاد إنّه، كلّما دعاه أولادُه للتفهّم والتسامح - مع الآخرين أو إلى ما إلى هنالك من الأفكار الإنسانوية -  أجابهم تفهّموا أنتم وتسامحوا كما تريدون، أنا فاتني ذلك الأوان الصالح، ولم يعد لتسامحي أو لتفهّمي أصلا أيّ تأثير... فؤاد لبناني أيضا.

شيء يشبه أيضا أن تخون تراثك. تراثك الشخصي، وأيضا تراثك الوطني، أو القومي. لماذا؟ لماذا تراني أتنكّر لكلّ ما يجمعني بأهلي وعشيرتي وبني أمّتي، على ما تعلّمنا عن جبران. لماذا أطلع منهم وأخرج عليهم، فيما لم يتبقّ بيننا سوى القليل القليل الذي، لو احتُسب فعلا لما وزن سوى وزن الهباء المنثور. و.. كم خروج على جماعته يلزم الفرد كي يدّعي أنّه "شباب" وأنّ السير عكس التيّار واجب، أخلاقيا وسياسيا و.. حضاريا، لتصحيح المسارات ونقد الأخطاء. ولماذا لا نستهدي بحكمة العمر التي تحيل الكهول والشيوخ إلى "رجعيين" بالضرورة. ضرورة التعب، واقتراب أجل يستأهل بعض الراحة الكسولة، إذ يرى المستسلم إلى هناء رجعيّته أنّه لن يكون بأيّ حال هناك للأحتفاء بأيّام الإنتصار واستطعام حلاوة ثمرات الحصاد حين يأتي الحصاد. بعد موته.

لماذا ذلك الإستكبار، وتلك العنجهيّة؟ إنّه أشبه بكره الذات. أن تسعى إلى عكس ما يسعى إليه العالم. العالم اليوم طائفي وغرائزي ومتعصّب وعنيف، وفاسدة أطعمتُه ومياهه وبحوره وهواؤه. فاسدة حتّى حروبُه التي لن تجد فيها جبهة واحدة تقبل بمثلك. فماذا يعني أن تفتح جبهة على نفسك لتصحّحها؟

 حين أدافع عن أخطائي ومساوئي، أريد أن أخترع لغة أقنع فيها إبنتي بالإبتعاد عن تغيير ما لا يعجبها في هذا العالم، وهو لا يعجبها، خاصّة منذ أصبحت ديمة أمّا. أريد اختصار عذاباتها وتقنين رشح العالم إلى داخلها. أريدها أن تنتظم في صفوف اليائسين، هؤلاء الواقعيين الذين يمارسون الرياضة يوميا بأسلوب جدّي ومثابرة. يأكلون "بيو" ويشترون ال"غادجت" ويفاخرون بانصرافهم عن كلّ ما يكدّر المزاج.

أمّا قوتي الحقيقيّة في عنادي وتبنّي نفسي المليئة بالشوائب فهي لا شكّ تعود إلى أربعين عاما. من أيّام البوسطة – الشهيرة - التي لم ينزل منها أحد وأنا أشدّ للنزول كلّ صباح. كنت أشدّ للنزول. علام؟ أسأل نفسي اليوم؟

ماذا وجدتِ على قارعة الطريق؟ ماذا جنيت؟ فيما الناس تهزج بالأغاني على المقاعد الأهليّة الجلدية الحنونة؟ وفيما البوسطة سائرة من أربعين عاما بقوّة الحياة الدافعة ذاتيا؟

من عين الرمّانة الخضراء إلى عيون زمزم في اليمن السعيد. السعادة كلّها!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب