الإثنين 2016/12/26

آخر تحديث: 07:05 (بيروت)

"في صراع الأجيال"

الإثنين 2016/12/26
increase حجم الخط decrease
                                           

رامي

كلّما حاولت أن أروي لهم كيف كانت الأمكنة أيّام كنت فتيّة، يفغرون أفواههم. يعتقدون أنّي أبالغ كثيرا. ولأنّهم لا يريدون تكذيبي – تهذيبا منهم – يكتفون أحيانا بالضحك كأنّي أروي النكات، أو أمازحهم. وحين أروح أكرّر، عاقدة حاجبيّ ومتخذة هيئة الناس الجدّيين، يبدأ الملل يتسرّب إلى جلستنا التي تجمع "الأجيال". مَللهم مقابل حماستي.

حين يقول أحدهم إنّي هكذا لأنّي تركت البلاد من زمان، وإنّي متعلّقة بما اخترعته عن تلك الأمكنة كالمغتربين الذين طالت هجراتهم، وإن النوستالجيا هي كالبلاسيبو – أو الدواء الوهمي – وإلاّ... وإلاّ كيف جرى أن دمّرنا كلّ، كلّ،  هذا حتّى لم يتبقّ له أثر؟! وحين لا يتبقّى لي غير خشبة المناخ الجميل الأخيرة تنقلب الأجواء إلى السخرية الفاقعة. وأجد نفسي كمنشور سياحي فاتت مدّته.. فيسترسلون في رواية الحكايات المثيرة عن فساد الأطعمة والماء والهواء إلخ...

"إن كنت صادقة، وهذا ممكن رغم أننا لا نرى أثرا له، فقد حملته معك" يقول أحدهم. اختفى عمّتي، فينيش، يضيف أصغرهم. "ربّما لو غادرنا البلاد إلى فرنسا حين غادرتِ، لو هاجرنا مثلك، في عمرك، لكنّا فهمنا. أنا ولدت في هذه الزبالة. لماذا تحزنين هكذا؟"

معه حقّ. أريد أن يتذكّر معي ما لم يعرفه أو كان رآه. أريد أن يصدّقوني كما يصدّق الأتباع الرسل. هكذا بالإيمان الأعمى. وأعتب لمجرّد التشكيك بمصداقيّتي وأنا أكرز فيهم وأتأفّف وأعتب قبل أن أعلن مهزومة بأنّه "صراع الأجيال".

كلّهم يتحضّرون للسفر: إلى أين؟ - إلى أي بلاد في العالم ومن المستحسن أن تسهّل إعطاء جنسيّتها للغرباء.

- حتّى لو توفّر لك عمل هنا بشروط ماديّة أفضل؟ - طبعا لأني، في بلاد أخرى سأكون إنسانا آخر. على فكرة لماذا لا تعودين؟


مرشد

بعد سنتين أو ثلاث لا يحلم واحدهم سوى بالعودة. إن سألته يقول لك إنّها غريزة الحيوان، كمثل ما تفعل أسماك السلمون، وتبدأ السباحة العكسية بشراء الشقّة.

- هل تنوي العودة؟ - لا لا. لكن يجب أن أشتري شقّة في بيروت. أين ستقضي عطلة الأعياد هذه السنة؟ - يكفي أسفار، سأقضيها في بيروت. هل ستعمل على تسهيل سفر أخيك الصغير إلى حيث تعمل؟ - طبعا، بلا تردّد. لا أتركه هنا...

- هؤلاء لا تسألهم عن "رأيهم" في شيء. لا يتابعون الأخبار ولا يتكلّمون في السياسة ولا في أيّ من أحوال البلد. وقلّما يفتون في "مسائل" الهجرة أو البقاء أو يشرحون شروط العيش في تلك البلاد الأخرى. وتعرف حين يقترب موعد عودته إليها – بلاد الشغل - كما يقول مرشد، من صمته الطويل ومن مكوثه في البيت لا يريد الخروج. وهؤلاء، ذوي الحقائب الصغيرة، لا يحبّون أن يستقبلهم الأهل في المطار أو أن يرافقوهم في العودة إليه...


رضا

ثمّ هناك من يفضّلون الطيران. من قرّروا حبّ الطائرة وشركات الطيران وتذاكر السفر وغيوم السماوات الواطئة. وقرّروا أيضا أن الأمكنة لا وجود لها، وهي تتشكّل تحت أقدام من نحبّهم بلحظة واحدة. من نلتقيهم ونحن نخفق بأجنحة الطيور الخفيفة التي تسكن في خطوط طيرانهم نفسه. أنّ طيور السرب هم الأعشاش والأشجار أيضا...

لهؤلاء، يبدو العالم ضيّقا كمجرّة. والبلاد هي النوم على الكنبة القديمة في بيت الجدّة في دفء ضحكاتهم نفسها ونكاتهم نفسها حين يجتمعون. ومنهم من يحرن إن لم يجد "الجميع" في استقباله على المطار، فرضا لا يقبل عذرا، لا حين الوصول ولا وقت المغادرة...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب