الإثنين 2014/07/28

آخر تحديث: 13:22 (بيروت)

جيش الفرقة مئة وواحد.. النموذجي

الإثنين 2014/07/28
increase حجم الخط decrease

تحاول المذيعة الخائفة إخفاء خوفها. تقاطع الضيف باستمرار قبل أن ينزلق جوابُه إلى الناحية الخطر. تعمد إلى الأسلوب الإستباقي خشية التبعات. ليس فقط بسبب أنّها شابّة غير متمرّسة، تمّت الإستعانة بها أثناء عطلات المذيعين النجوم، بل لأنّه يصعب على أيّ كان فهم "إرشادات" إدارة التلفزيون الفرنسي في ما يخصّ تغطية حرب غزّة. فبين شعار الصحافة المستقلّة وقدسيّة حريّة التعبير، وفتح الهواء المباشر لكلا "الطرفين" المتصارعين على الأرض، تتربّص تهمة اللاسامية كوحش كاسر لا يقبل الدغدغة. لذا راحت المذيعة الشابة تلتفت يمنة ويسرى وهي تقاطع ميشال سيبوني، بذريعة نفاذ الوقت أو إلحاح الأسئلة الكثيرة...

وميشال سيبوني التي تمثّل "إتحاد يهود فرنسا من أجل السلام" من موقع نائب رئيس هذه الجمعيّة تكافح، تقريبا تكافح، من أجل تمرير جملتين بسيتطين: الأولى أنّ يهود فرنسا فرنسيّون، فرنسيّون "فقط" (!) والثانية أن الجيش الإسرائيلي هو جيش إحتلال (!!). لكنّ المشاهد يخمّن بسهولة بأن مدير الأخبار الذي رأى أنّ من "واجبه" المهني دعوة يهودي معارض لسياسة إسرائيل، بهمّ الموضوعيّة الداعية لتوازن ما، مقابل أعداد اليهود الداعمين لهذه السياسة، هذا المشاهد يخمّن بسهولة أنّ المدير يعرف لا بدّ ما تتعرّض له سيبوني من حملات التشهير و.. الإتهام بالعداء ل"شعبها"، من كره الذات على طريقة ساندروم استوكهولم إلى اللاسامية القبيحة...

ارتباك الإعلام الفرنسي يقع تحت عنوان عريض عملت إسرائيل منذ قيامها على حفره وتنزيله في المخيّلة الأوروبيّة على نحو خاصّ. إنّه "الأولويّة الأخلاقيّة".

منذ اليوم الأوّل لتشكيل جيش "الدفاع" الإسرائيلي كان هذا الجيش ينشر ويعمّم في العالم لواء الأخلاق ونبراس القيمة الإنسانيّة، مُلحقة برحمها أي بنظام القيم الأوروبي، الغربي عموما، ذلك الذي أقام دولة إسرائيل كردّ أخلاقي على همجيّة ارتكبتها يداه. فقد اعتمدت هذه الدول، الأكثر تقدّما في العالم، القيمة الأخلاقيّة لإعطاء شرعية تؤسّس لقيام دولة لا وجه شرعيّا لإقامتها، لا في حقّ الأرض ولا في غيره من الحقوق.. فالحقّ الإلهي لعودة اليهود إلى أرض الميعاد التوراتيّة لم يكن ليستقيم، أواسط القرن العشرين، في سجلاّت دول شرعة الأمم تلك. وألمانيا الضالعة تمسك بطرف خيط جوهري...

نظام "القيم الأخلاقيّة" ما زال يؤرّق ألمانيا حتّى اليوم. حتى اليوم تحفر ألمانيا في عمق طبقات ضميرها الجمعي بحثا في السؤال: كيف جرى تحويل القيم الأخلاقية لفكر هو بثراء وأهميّة وأصالة الفكر الجرماني إلى اعتناق كاسح لنازيّة هي في النقيض التام لما خلُص إليه ذلك التراث الفكري. هذه الآليّة النادرة النشاط لم تستغرق أكثر من ثماني سنوات. ثماني سنوات فقط لكي تقوم الفرقة الألمانيّة "مئة وواحد"، المكوّنة من خمسمئة عسكري بإعدام ثلاثة وثلاتين ألف يهودي بولوني بإطلاق النار المباشر. أفراد وعساكر الفرقة النازيّة كانوا من المتطوّعين. ستّة من أصل خمسمئة "فضّلوا" عدم الإشتراك بالإعدامات. إثنان آخران قالا إنهما كانا يتردّدان في إعدام الأطفال، لكنّهما وجدا مبرّرا للقيام بذلك هو: الشفقة، إذ سيتعذّب كثيرا في الحياة أطفال ماتت أمهاتهم، وقد يكون الموت أفضل لهم من العيش في حالهم!!

وتقول الدراسة الألمانيّة التي تناولت الفرقة "مئة وواحد" إن قراءة الرسائل ومشاهدة الصور الشخصية والعائليّة لهؤلاء الجنود تبرهن عن عاديّة سويّة، إنّهم أبناء وآباء وأزواج محبّون، غيوريون على أوطانهم وبيوتهم و.. إيمانهم كبير بالدين وبالإنسان...

ولأن لا مجال هنا سوى للإختصار الشديد تنتهي الدراسة الألمانيّة إلى التصوّر التالي: إنّ آلة التحويل تقوم على عنصرين. الأوّل هو منهج برمجة شعب ما على أنّه أعلى شأنا، في عناصر تميّزه بالذات – الآري هنا – والثاني هو في خلق وتضخيم واستغلال تروما ما تعرّض لها هذا الشعب في تاريخه فصار ضحيّة – هنا تحقير الأمّة الألمانيّة وتجويعها بعد إركاعها إثر الحرب الأولى. بعد ذلك يصبح من أيسر الأمور جعل الآخر، أيّ آخر مختلف عن الجماعة، تلك "المختارة " و"الضحيّة"، جعله –جوهريّا- ناقص الإنسانيّة، خارجا عمّن تنطبق عليهم المبادىء الأخلاقيّة الجامعة...

هل من حاجة لتسمية عناصر التشبيه؟ وهل تكون نسبة الدّعم الشعبي العالية مؤشّرا ديمقراطيا؟ وكيف يكون جيش ما، محاط بحبّ شعبه وبعناية  القيم الإنسانيّة، جيشَ احتلال وقتل؟

هل سيُعيد الجيش الإسرائيلي النظر بقيمه "الأخلاقيّة" وعند أيّة أرقام من القتلى الفلسطينيين إن كان للأرقام من معنى عنده أو من قيمة؟؟

increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب