الإثنين 2015/03/30

آخر تحديث: 10:01 (بيروت)

الشاب الدمث وحيدا في المقصورة

الإثنين 2015/03/30
increase حجم الخط decrease

من يستطيع معرفة ما كان يدور في رأس الرجل، وحيدا في المقصورة؟

المسؤولون المحليّون، الإعلاميّون، تقنيّو الطيران، المحلّلون النفسيون ما زالوا يحاولون. الرجل الذي أغلق المقصورة من الداخل، ثمّ كبس على زرّ الهبوط السريع لم يقل كلمة واحدة. ما سجّله الصندوق الأسود كان إيقاع تنفّسه فقط. وطرقات ملحّة على باب المقصورة... لم يجدوا في بيته كلمة واحدة. لا إشارة واحدة على هاتفه.

كلّ من عرفه تحدّث عن الشاب أندرياس لوبيش. قالوا أشياء قليلة جدا. كان مكتئبا. وحيدا وبحاجة للحبّ، قالت صديقته. بعض زملائه قالوا إنه كان يشكو من ضغط العمل ومن فقدان الحوافز من كلّ نوع. كان يأمل بأن يصبح طيّارا قائد كابين، وأن توكل إليه الأسفار البعيدة بعدما أثبت جدارته. الطيّارون الذين رافقهم في الرحلات قالوا إنه دمث ولطيف وشغّيل وجدّي. وإنّه كان بارعا في عمله لدرجة أنّه من المنطقي أن يتسلّم لوحده قيادة الطائرة، أقلّه لفترة يغيب فيها الملاّح القائد لشأن أو لحاجة ما. صديقته المضيفة التي رافقته وأنشآ علاقة عاطفية انتهت بانتهاء فترة عملهما معا، أضافت أن لوبيتش كان وحيدا دوما وفي نقصان عظيم للحبّ.

كلّ ما تجمّع من معلومات عن هذا الشاب كان لمعرفة أسباب الإنتحار الجماعي الذي دفعه لقتل مئة وخمسين راكبا بإسقاطها فيهم، متأكداً إنّ أحدا لن ينجو. كلّ ما تجمّع هو في خلاصته بسيط ويتكرّر جدا في الغرب إذا ما انتحر أحد الأشخاص. فملامحه هي ملامح شاب وحيد، مثقل بضغط العمل، يائس من الترقّي في عمله وهمّه الأوّل المحافظة عليه. ينقصه الشعور بأنّه محبوب ومحاط. هكذا ينتحر الناس هنا.

لكنّ هذا المستوحش كان يعلم تماما أن أحدا لن يتوقّف عند خبر انتحاره لشدّة ما هو خبر "عادي". لن يعرف بانتحاره إلا بضعة أشخاص. أنّ "العالم" لن يتوقّف  عند حكاية يسمعها مرّات كثيرة في اليوم الواحد، إذا ما سمعها.

اختار أندرياس لوبيتش المنطقة الشديدة الوعورة ليُسقط طائرته بحمولتها البشرية متقصّدا ألاّ ينجو أحد. كان حلّق مرارا خلال عمله فوق منطقة الألب، بل هو عبّر مرارا عن افتتانه بهذه البقعة. كان يعلم أنّ البحث عن الأجساد المتناثرة سيأخذ وقتا طويلا، وأن التعرّف على الجثث، كما تجميعها سيأخذ وقتا أطول. وفي كلّ هذا الوقت سيتكلّم العالم عنه. وسيبحث عنه لفهم فعلته، لذا لم يقل شيئا. سيطيل التشويق بقدر ما يستطيع. وهو – أي التشويق- ما زال مستمرّا.

قرّر لوبيتش ألاّ يموت وحيدا، كما يفعل الشباب الكثر المنتحرين. لا بدّ أنّه تخيّل كافة تفاصيل ما سيحدث. وكانت صورة تناثر جسده وأجساد الآخرين فوق الثلج والصخور، في تلك المنطقة غير المأهولة والبعيدة ساعات عن أقرب قرية، صورة تحمل إليه طمأنينة ما. لا بدّ أنّه توقّف قليلا أمام جمال هذه الجبال المسنّنة كمن ينظر إلى بطاقة بريد سياحيّة. لم يعبأ هذا الشاب بموت الآخرين، أعني بقتلهم. وعد نفسه بألاّ يكون وحيدا في موته. هل رأى في أجساد الآخرين أخوّة ما..؟

تشبه حكاية هذا الشاب، اللطيف والدمث على ما يوصف، حكايات التراجيديا القديمة... حيث حائط الألم هو سور الوحشة بعينها. وهو سوء الفهم الفظيع الذي يقع بين الفرد والجماعة بحيث يذهب إلى تخريب حجارة بناء المنطق مهما كان متماسكا في ماضيه، وإلى بعثرة سلّم القيم كلّها.


لا تستقيم المقاربة الأخلاقية في حال كهذه.

لا يستقيم السؤال حول مفاهيم مثل الإجرام والأنانية ودوافع المرض النفسي.

إنّها الوحشة في أقصى درجاتها. حيث لا يعود الوجه إلى المرآة. فكيف لحامل المرآة أن يرى آخرين؟!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب