الثلاثاء 2015/08/11

آخر تحديث: 13:28 (بيروت)

زوال هيروشيما ليس من نسج الخيال

الثلاثاء 2015/08/11
زوال هيروشيما ليس من نسج الخيال
نصب هيروشيما الباقي من زمن القنبلة
increase حجم الخط decrease
منذ يفاعتي ونشأتي، أسمع عن هول القنبلة الذرية وفظاعتها وقوتها وهمجيتها ووحشية اميركا عندما ألقتها على هيروشيما. ومنذ يفاعتي أسمع أن الذي ألقى القنبلة على المدينة أصابه الجنون ودخل المصح، وان المشاركين في ارسالها كانت مصائرهم في الحياة صعبة وكارثية... لم أكن أدري من أين استقى الناس هذه الاخبار الشعبية، ولم أحاول التأكد من صحتها او عدم صحتها، لكني حتى الآن ما زلت اسمعها.

هيروشيما التي اضاءت اليابان الشموع في ذكراها الـ70، من أشهر المدن التي تعرضت للزوال والإبادة. هناك مدن كثيرة تعرضت لحروب داخلية وخارجية وارتبط اسمها بالحقائق والأساطير والدمار مثل غرنيكا وبيروت وبرلين وسايغون وسراييفو وستالينغراد ودرسدن، لكن هيروشيما تبقى في الواجهة... قرأنا في كتب التاريخ عن مدن أحرقت وأبيدت وهلك أهلها على الطريقة الحرب البدائية، لكن وقع هول هيروشيما كان أكثر فداحة ورعبا وهذياناً، وزوالها ليس من نسج الخيال. كان وقع إبادة هيروشيما فريداً، لأن المدينة اختفت دفعة واحدة، كانت مدينة مثل مروحة تتخللها الأنهر ويقطنها آلاف الناس فصارت بقعة من رماد أسود، انتهت بأن اصبحت صورة لإشعاع يشبه الشجرة أو الفطر... كانت التجربة الأولى الفعلية للقنبلة كافية لاقتناع البشرية بخطورة وهول استعمال الاسلحة النووية، لكن ومنذ الحرب العالمية الثانية والعالم يستنكر القنبلة على هيروشيما، ويحضر فيلم "هيروشيما حبيبي" بشغف، ومع ذلك لم تتوقف البلدان الكبرى عن اقتناء هذا النوع من السلاح وتصنيعه والتهويل به. انتهى صراع "الحرب الباردة" وبقي التنافس الوحشي على السلاح النووي وبقيت هيروشيما في الذاكرة...

لماذا هيروشيما بالذات؟ دمرت مدن كثيرة او أزيلت او تحولت بفعل التبدل الديموغرافي او الحروب او الزلازل او غضب الطبيعة، لكن حتى الآن، زوال هيروشيما بقي الأكثر رعباً وتأثيراً في العالم وأغرب من الخيال. فعندما سقطت القنبلة وانفجرت تسببت في دمار تام لكل من الكائنات الحية وحتى الجماد في دائرة نصف قطرها 1,6 كيلومتر. بينما امتدت نيران القنبلة على مساحة قدرها 11 كيلومتر مربع. ربما لندرك هول زوال هيروشيما، علينا ان نقرأ روايات شهود. تقول سيدة نجت من تلك المذبحة "كان عمري 12 عاماً، وكان ذلك اليوم صحواً... فجأة رأيت صاعقة من البرق أو ما يشبه عشرات الآلاف الصواعق تومض في لحظة واحدة، ثم دوى انفجار هائل، وفجأة ساد المكان ظلام تام، عندما أفقت وجدت شعري ذابلاً، وملابسي ممزّقة، وكان جلدي يتساقط عن جسدي، ولحمي ظاهر وعظامي مكشوفة"...

قبة غنباكو التي ظلت صامدة رغم أن القنبلة انفجرت على بعد 180 متراً فقط منها، تحولت نصباً شاهداً على الجحيم الذي صنعه الذكاء البشري (اي القنبلة الذرية)، الذكاء الذي الذي يرتد سلبياً على البشرية. ماذا تقول القبة الآن؟ ماذا تقول عن زمن القنبلة وزوال المدينة؟ تكفي قراءة مقال الصحافي جون هرسي في "نيويوركر" لنتذكر الماضي والحاضر ونشعر بالهلع: "عائلات بأكملها من المشوّهين كانت تتعاون في ما بينها. وكان بعض الجرحى يجهشون بالبكاء. الغالبية كانوا يتقيّأون. كانت حواجب بعضهم محترقة وجلدهم معلّقاً على وجوههم وأيديهم(...) كثيرون كانوا عراة أو يرتدون الأسمال".

وأفدح من ذلك، تحرّم البلدان الكبرى السلاح النووي، لكنها تبقى شاهد زور على دمار يشبه هيروشيما. التدمير دفعة واحدة محرم، أما التدمير بالتقسيط فمتاح وينقل مباشرة وبـ"متعة" على شاشة التلفزيون والانترنت. في كل مرة تصوّر مدينة سورية مدمرة، تجري مقارنتها بهيروشيما بل يتم ربط ما يحصل في سوريا بالمفاوضات حول المشروع النووي الايراني. وفي كل مرة يجري إحصاء البراميل المتفجرة التي يسقطها النظام السوري على المدن السورية، تتم مقارنتها بقوة القنبلة الذرية. مشهد الدمار في حلب وحمص والقصير والمناطق المحيطة بدمشق لا يختلف كثيراً عن هيروشيما. كم هيروشيما في سوريا؟ هل الأنظمة عاجزة عن الردع الى هذا الحد؟ كم مدينة ينبغي أن تدمّر لتتوقف الحرب في سوريا أو ليبيا أو اليمن وحتى الشيشان؟...

من دون شك ان كل طيار يرمي برميلاً متفجراً أو صاروخاً على مدينة كأنه يرمي جزءاً من القنبلة نووية، كأنه يقول ان العالم بلا ذاكرة، أو يكرر ما يفعله ملايين المرات...

***

على هامش هيروشيما، لا بد من التذكير ببعض المواقف الأدبية التي تطرقت إليها، فهذه المدينة صارت الشغل الشاغل للروائيين اليابانيين والسينمائيين والشعراء، وربما لم تحظ مدينة بهذا الكم من الروايات عن رمزيتها سوى بيروت، وربما يكون الروائي كينزابورو أوي أشهر من جعل هيروشيما موضع اهتمامه من الروائيين.
فحين ولد لأوي طفل معاق، في العام 1963، شعر بأن انهياراً حصل في كل قلبه. ذهب إلى هيروشيما، "أجل ذهبت بكل قلبي لأقول للناس الذين هناك، ولم يبقوا هناك أبداً: إنني أضع موتي تحت تصرفكم، لكنني أعدكم بأنني سأثأر من الشيطان". وظف قلمه في كتابة المقالات والكتب من أجل مناهضة التسلح النووي وتهديده مثل "ملاحظات على هيروشيما" العام 1965 الى مجموعة المقالات "الخيال في العصر الذري" التي كتبها العام 1970. لاحق الهاجس النووي أوي منذ يفاعته، وعاهد هيروشيما أن يثأر لها، يقول: "أظنكم تستغربون لأنكم لم تشاهدوا هيكلاً عظمياً يضحك… ولكن أيها السادة هل تضحك هيروشيما؟". 



(*) هنا الحلقة الثالثة من ملف "المدن الزائلة" بعد "رشيد... تحولات مدينة بليدة!" وأربيل: مدينة قوس قزح التي أصبحت كردية"...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها