الأحد 2015/08/09

آخر تحديث: 12:06 (بيروت)

أربيل: مدينة قوس قزح التي أصبحت كردية

الأحد 2015/08/09
increase حجم الخط decrease
كان من المتوقع أن أكتب عن مدينة نينوى أو الفلوجة أو حتى بغداد التي لم تعد بغداد "الرشيد" كما عرفها التاريخ. لكن هذه المدن ما زالت تصارع وتحارب من أجل الحفاظ على وجودها، أو على نفسها على الأقل من طوفان الاجتثاث البشري، كما طاول بعض المدن عبر التاريخ ولم يعد لها وجود.

حينما تمر في شوارع فرانكفورت أو كراكوف ستبدأ في التفكير: ماذا كان سيحدث لو طالت الحرب العالمية أكثر ومحت هذه المدن تماماً ولم يعد بإمكان المرء أن يمر بجوار بيت غوته، الذي دمرته الحرب وأعيد اعماره لاحقاً، في محاولة لاستعادة النسخة الأصلية من التصميم؟ ماذا لو لم تعد المدينة تذكر غوته وتعيد ترميم بيت ولد ونشأ فيه كي نمر بجانبهِ ونتأمل نافذة غرفته الجانبية والشجرة المتسلقة حباً في ذكراه؟! أو كيف كانت ستبدو الحياة إن انتصر هتلر وبطش أكثر بمدينة كراكوف وأخذ مع جرافة عنصريته وطغاينه، مقهى وحانة "الخيمياء" في الحي القديم من المدينة، ولم يتمكن المرء من شرب نخب الحياة في أشهر شارع شهد تطهيراً عرقياً على أيدي النازيين؟! كل هذه الأسئلة تمر في البال عندما يصادفك جدارٌ رمادي ما زال شاهداً على تلك الحقبة وتقفُ متأملاً التاريخ؛ هل تشكر القنبلة الذرية التي أوقفت بدورها هذا الجنون كله، أم تلعنها لأنها بالتالي محت مدناً في المقابل ولم تعد هيروشيما كما كانت!

بعض المدن لم يكن بحاجة إلى حرب وقنبلة ذرية ليختفي. كان بعض المصالح السياسية وتوسع جهة على حساب جهة أخرى كفيلاً بذلك. الإحساس يختلف عندما تكتب عن اختفاء مدن تعرفها وبين مدن انحدرت منها وشهدت تلاشيها شيئاً فشيئاً. لا أحد يدرك أن مدينة أربيل العراقية الواقعة في شمال العراق، وهي الآن عاصمة اقليم كردستان العراق، كانت عبارة عن قلعة أربيل.

قلعة أربيل، أو مدينة أربائيلو، وتعني الآلهة أربعة في اللغة الآشورية القديمة، هي أقدم مدينة تاريخية في الشمال شاخصة حتى يومنا هذا، بنيت حوالى 2300 ق. م وربما قبل ذلك. أصبحت المدينة جزءاً من المملكة الآشورية المسيحية في ما بعد، وبقيت كذلك لعقود حتى جاء ما يسمى "الفتوحات الإسلامية" و"فُتحت" المدينة على يد الخليفة عمر بن الخطاب وصارت مدينة اسلامية تعتنق غالبية سكانها الإسلام، وبقدر أقل المسيحية واليهودية.

وفي العصر العثماني كانت أربيل تابعة إدارياً لما كان يسمى "ولاية الموصل". ما لم يثبتهُ التاريخ حقيقة هو نشأة سكان قلعة أربيل "الأصليين" وكيف صادف لقرون أن تكون الغالبية الساحقة من سكانها من التركمان المنحدرين من شرق أوروبا على الأغلب! عبر تاريخ المدينة يمكن اعتبار قلعة أربيل، مصدر نشأة المدينة الكبيرة في ما بعد. معظم الحياة في المدن الكبيرة يبدأ من القاعدة، ثم يتوسع هرمياً أو أفقياً. لكن نشأة أربيل بدأت من قمة القلعة "لتضخ" الحياة في ما بعد وتوزعها بشكل انسيابي إلى جهات قاعدة القلعة، لتكون أربيل التي نراها اليوم.

لم تكن قلعة أربيل مجرد قلعة أو حصن يحتمي فيه الحاكم وحاشيته. لكنها كانت مدينة كاملة نشأت من فكرة العلو والسمو على ارتفاع ما، لتكون أقرب إلى السماء منها إلى الأرض.
للقلعة مدخلان رئيسيان على جانبي المدينة المدورة. مدخلٌ يؤدي إلى السوق القديمة، ومدخلٌ آخر يؤدي إلى مركز المدينة من الجهة الأخرى. عندما تسلك أحد المدخلين صعوداً ستلاحظ تنامي المدينة الحديثة تدريجياً على مد الأفق، وهذا ما لن تلاحظ عكسه عند الانحدار عبرهما. برغم صغر المدينة ومحدودية سكانها قديماً، إلا أن ديموغرافية القلعة كانت مقسمة إلى ثلاثة تصنيفات من السكان. محلة السراي، والتكية، والطوبخانة. ومن اسماء هذه الأحياء يستشف المرء أن السراي كانت مخصصة للعائلات البرجوازية الكبيرة. والتكية كانت ملجأ المشايخ والدراويش. أما الطوبخانة فهي لعامة الناس من الموظفين والعمال والمزارعين. وبتحسن الأحوال المعيشية لعموم سكان القلعة، بدأ النزوح "الانحداري" من القلعة إلى المدينة الحديثة مع التوسع العمراني الحاصل آنذاك، خاصة الجيل الناشئ في الستينات والسبعينات. وبنزوح السكان الأصليين للقلعة، وكانوا من غالبية تركمانية وآشورية، فسح المجال لاستيطان الأكراد النازحين من جبال تركيا وشمال العراق. بقيت عائلات محافظة على ارثها في القلعة، ومنهم من عاش حياتهُ كلها فيها حتى مماتهِ، أي حتى مطلع التسعينات عندما حصل التغيير الأكبر في ديموغرافية القلعة، وبسبب النزوح المعاكس، أصبحت غالبية سكانها من الأكراد القادمين من مختلف بقاع كردستان العراق وتركيا تحديداً.

وبسبب الإهمال الذي طاول القلعة وعدم ترميمها لسنوات طويلة، وبسبب تهالك جدرانها المبنية من الطابوق الطيني الهش وتلاصق بيوتها بعضها ببعض على مد محيط القلعة، أصبحت غير صالحة للسكن. قامت حكومة كردستان قبل سنوات، بدفع تعويضات لمالكي هذه البيوت لاخلائها لتكون من ضمن الآثار المهمة في المنطقة بحسب تصنيفات اليونيسكو. وكان معظم السكان "الأصليين" قد باعوها للنازحين الجدد من الأكراد، عدا عائلات قليلة آثرت أن تبقي أملاكها باسمها للحفاظ على اسم العائلة وارثها.

منذ بناء القلعة، مدينة أربائيلو، وجدت لتكون حصناً منيعاً في وجه الغزاة، توالت عليها أقوام وبشر وديانات وثقافات مختلفة. وفي كل عصر جديد وحقبة كانت تفقد شيئاً من وجهها الذي ولدت عليه، حتى وصلنا يومنا هذا الذي لم تعد فيه أربائيلو أربيلاً. ولم تعد هناك الآلهة أربعة لتحميها من عوامل التعرية البشرية، ولم يعد هناك حجاج يحجون إليها لقدسيتها وقدسية آلهتها عشتار.. هي الآن مجرد "ههولێر"، يسودها لونٌ واحدٌ رغم أن قلبها في الحقيقة "يشعّ" بألوان قوس قزح.


(*) هنا الحلقة الثانية من ملف "المدن الزائلة" عن مدينة أربيل العراقية، بعد الحلقة الأولى عن مدينة رشيد المصرية...

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها