ليالي المدن: ستافنجر النرويجية.. بين قارتين

"المُدن مثل الرجال، لا تتعرف عليها سوى في الليل." كتبتُ هذا التعليق تحت صورة التقطها لبحيرة مدينة ستافنجر النرويجية حيث أقيم ونشرتها على حسابي في الفيسبوك. علق أحد المصورين المحترفين على التعليق وليس على الصورة بـ:
- ولماذا لا تكون مثل النساء!
كان جوابي فورياً:
- لأن مصور هذه الصورة امرأة!

كل منّا يرى ليل المدينة بحسب ما يستمتع باكتشافهِ أكثر. لمدينة ستافنجر وجه يختلف في النهار عنهُ في الليل، وأعني "وجه" بالمعنى الحرفي. كانت لدي صورة نمطية عن المدينة في بداية إقامتي فيها، وبعد فترة حفظتُ وجوه السكان لأني التقيهم عادة في وسط المدينة وربما في كل مكان. المدينة كبيرة في المساحة وتعداد سكانها ما يقارب 132 ألف نسمة، بعد أسابيع من الإقامة تكاد تلتقي بالجميع من خلال جولاتك في المولات والمكتبات والمتنزهات، أو هكذا يبدو لك من كثر تكرار الوجوه عليك كل يوم. سيبقى هذا الانطباع لديك إلى أن يصادف أن تكون في المدينة بعد منتصف الليل نهاية كل أسبوع أو العطل العامة. في ذلك الوقت فقط سترى الوجه الآخر للمدينة، وأعني "الوجه" حرفياً.

صادفَ أن أكون مع الصديق ذاته في ليل مدينتهِ في الولايات المتحدة ومدينتي في النرويج. بعد الانتهاء من قراءة متأخرة في أحد بارات المدينة القديمة في ستافنجر خرجنا أنا والصديق لنتجول في ليل المدينة. كنا جائعين، ولم نجد غير المحلات الشرقية، مثل سلسلة كباب وغيرها مفتوحة لغاية ذلك الوقت بالاضافة لمحلات الوجبات السريعة. جوع ما بعد منتصف الليل يعقب سهرة شِعر وشراب يختلف عن جوع النهار بعد بذل جهد في العمل والواجبات اليومية. تناولنا الكباب والفلافل وكانت كافية لتعطينا طاقة أكثر لاكمال جولتنا في المدينة. كان ذلك اليوم يصادف احتفالاً ما للجالية الآيرلندية. كانوا يحتفلون مرتدين أزياء مبتكرة من العلم الآيرلندي، بعضها مكون من قطعتين بالكاد تغطي أجسادهم. وللحظ صادفتُ احتفالات الآيرلنديين مرتين في مدينتين مختلفتين، مرة في لويبليانا، عاصمة سلوفينيا، عندما فاز فريقهم الرياضي في لعبة ما وأقاموا الليل ولم يقعدوه على رأسنا في الشوارع والفندق الذي كانوا يشاركوننا الإقامة فيه. وليلة أخرى في مدينتي ستافنجر. تكاد احتفالاتهم المجنونة تحمل نفس السمات في كل مكان وباختلاف المناسبة. فالكل يذهب بشرابهِ وتصرفاته على نحو مجنون بحيث يتطلب أحياناً زيادة عدد حراس الليل في الشوارع منعاً لوقوع حوادث عارضة من أثر السُكر المفرط.

في شيكاغو عندما كنتُ اتمشى مع هذا الصديق كان الليل أوسع بكثير ويوحي لك بطبقات أحلامهِ وخيالاتهِ تنساب بسحر غريب بين بنايات ناطحات السحاب مع صوت الرياح القادمة من بحيرة ميشيغان، التي لم تنقطع قط طوال اسبوعين من إقامتي هناك. بالكاد تحس بوجود الناس وجلبة الحياة لشساعة ليل شيكاغو رغم انها مشتعلة في البارات وأماكن الترفيه وشوارع خلفية خارج المدينة وأماكن لم أصلها. الليل مع الصديق ذاتهُ في مدينتي كان مختلفاً جداً. ليل له وجه ليلي لا أراه في النهار. الكائنات الليلية هنا تعيش ليلاً فقط ولا تراهم في النهار. مجموعة كبيرة بل هائلة لم أكن أتوقعها أن عملها ليلاً فقط. تجارة الجنس هنا ممنوع ولكن بطريقة مكائدية، القانون النرويجي يسمح لك أن تبيع الجنس ولا يسمح لك بشرائهِ! كمن يقول لك هذا ماء في الكأس تستطيع أن تشربهُ ولكن ستحاسب إن استخدمت يديكِ  في حمل الكأس. في كل زاوية من زوايا البارات والمقاهي الليلية تنتشر فتيات أفريقيات ومن أوروبا الشرقية يتوسلن المارة من أجل شراء الهوى وبأسعار متاحة للجميع! هكذا صرتُ أعرف سعر كل واحدة كانت تقف هناك. يرفعن اصواتهن باسعارهن وباللغة الانكليزية المختلطة بين اللكنة الأفريقية أو لكنة أوروبا الشرقية ونوع الخدمة التي يقدمنها للزبون. تعجب صديقي الأميركي من انتشارهن بهذه الطريقة العشوائية إذ يبدو أن هناك مناطق مخصصة لذلك في مدينتهِ. واستغرب أكثر لوجود مجموعة كبيرة من المراهقين خارج البيت ويشربون ويدخنون بلا رقيب. مرة أخرى يقفز القانون النرويجي لمساعدة هذه الليالي أن تكون بهذه التناقضات، فهو يحظر شراء الدخان والكحول لمن هم تحت سن الثامنة عشر ولكن لا يحسابهم على تناولها. المراهق يجد ألف طريقة له في الحصول على ما يريد دون أن يخرق القانون، لكن إن اكتشفَ أمرهُ وضبط متلبساً فالعقاب يكون باهظ الثمن، وكذلك في مسألة بيع الجنس.

وبسبب من حوادث حصلت قبل سنوات انتشرت فكرة تعاون المتطوعين من الأهالي بعمل مشترك مع شرطة المدينة في المراقبة الليلية ومساعدة المراهقين بفض أي شجار محتمل أو اعادة بعضهم إلى البيت، إذا كان غائباً عن الوعي أو يحتاج لمساعدة طبية بسبب افراطهِ في الشراب أو تدخين الحشيش. هذه المجموعة وظيفتها تطوعية تماماً ولكن بتنسيق متقن مع الشرطة والجهات الأمنية. وتشير الاحصائيات إلى انخفاض نسبة الحوادث، خاصة حوادث الاغتصاب، بسبب انتشار ونشاط هذه المجموعة التي غالباً ما تخضع لبرامج وتدريبات معينة للتعامل مع أي حادث طارئ.

بعد فترة من الزمن وأثناء تواجدي عدة مرات ليلاً في المدينة صارت الوجوه الليلية مألوفة بالنسبة اليّ. صرتُ أصادفهم مساء في قاعة ال gym الذي ارتاده.. ينتهون من تمريناتهم اليومية في اللياقة البدنية التي يحتاجونها في عملهم الليلي.

ليل مدينة ستافنجر ضيق وصغير مثل تاريخها ونمطها الاجتماعي ولا شيء مثيراً تجدهُ إلى جانب المنظر الروتيني، كليل أية مدينة مماثلة؛ انتشار المحتفلين ببدلات فاخرة وبائعات الهوى والسكارى والمدمنين الباحثين في حاويات القمامة والأرصفة عن علب فارغة قابلة للإيداع أو فضلات سجائر مرمية تنفع أن يُخرِج منها بعض التبغ ويلفها مع ما يملك من حشيش، يدخنها وهو مستند على أحد المقاعد الباردة قرب البحيرة.

كل ما سيختلف في ليل المدينة هو وجهها الثاني، سواء كان مثيراً أو غير مثير، الذي لن تراه في الصباح.. مثل الرجال تماماً.