الجمعة 2024/03/08

آخر تحديث: 14:04 (بيروت)

المهنة: ربة منزل

الجمعة 2024/03/08
المهنة: ربة منزل
"أعمال منزلية" (ج. ريييرا)
increase حجم الخط decrease
أحلام يقظة تنساب مع الصابون على صحون العشاء. شتيمة غير ملفوظة يُسمع صداها في مرحاض يُدعَك. فكرة رواية أو اسكتش لوحة ربما تمر بين الثياب المبلولة فيما تستقر على حبال النشر، ولا تستقر الفكرة على أي ورقة. موسيقى أو بودكاست يجعلان تحريك محتويات طنجرة أجدى قليلاً للعقل والروح...

الأعمال المنزلية. تلك المشقات "الصغيرة" المتفرقة، والتي لفرط يوميتها وتكرارها، غالباً ما نغفل التفكير في المساحة التي تحتلها في حياتنا، كم من الوقت تسرق، وتأثيرها فينا. تلك السياقات التي سرحت فيها ومرحت، الآداب والسينما والأغاني، وحتى الفانتازمات الجنسية... الدليل الدامغ على أنها حياة، إن لم تكن الحياة بألِف ولام التعريف. أحياناً، وحين يكون أداؤنا لها اختيارياً، تكون مساحة للاختلاء بالذات، ربما للتفكير، أو أخذ استراحة من التفكير كله بصنع قالب حلوى. وفي أحيان أخرى، أكثر ربما، وحينما تهيمن على الأيام والليالي، وتكون مُلحّة وإجبارية وضاغطة، يمكنها أن تمتص رحيق العَيش لتجعله خاوياً، آلياً، ومُحبِطاً. لكنها، في كل الأحوال، ليست القَدَر الذي قد يفلت منه الميسورون كفاية للاستعانة بخدمات مأجورة. بل هي عمل، بكل ما للكلمة من معنى... رغم أنه غير مدفوع الأجر. عمل مجاني، يرفد اقتصادات الكوكب بأكثر مما ندركه من أصفار، وغالباً ما تقوم به النساء والفتيات. عن العالم أجمع نتحدث، وليس فقط البلدان النامية.

وليس من دون دلالة، قرار هيئة الأمم المتحدة للنساء، جعل شعار اليوم العالمي للمرأة هذا العام "الاستثمار في النساء: تسريع التقدم". الاستثمار في ما يُستَثمر فيه سلفاً الصبر، والمثابرة والعطاء بلا انتظار مقابل... إلا كلمة شُكر. وحتى هذه قد لا تُسمَع لشدة ما يؤخذ هذا الجهد من المُسلّمات.

والحال أنه، من ضمن سلة توصيات قانونية واقتصادية لتحقيق المساواة الجندرية ورسم ملامح حياة اجتماعية واقتصادية أفضل لسكان الأرض جميعاً خلال العقد المقبل، تنبّه هيئة الأمم المتحدة، وبواقعية مالية وعملية، إلى أهمية ضخ المزيد من الموازنات المستثمرة في اقتصاد الرعاية، لخلق 475 مليون فرصة عمل بحلول العام 2030، أي 269 مليون فرصة عمل جديدة، إضافة إلى تيسير التطور المهني خارج البيت، للرجال والنساء معاً، والذي من شأنه أيضاً أن ينعكس إيجاباً في الاقتصاد العالمي.

ويشير تقرير أصدرته الهيئة نفسها مؤخراً، إلى مساهمة حيوية تقدمها المرأة من خلال أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، ليس بالمعنى الاجتماعي فحسب، بل كذلك بالمعنى الاقتصادي المباشر والعالمي. ويُظهر التقرير أن النساء يقضين وقتًا أطول، بثلاث مرات تقريباً، من الرجال في أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر. وإذا ما وُضعت قيمة نقدية لهذه الأنشطة، فإنها ستمثل أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي.

أعمال الرعاية هذه قد تكون مباشرة وشخصية، مثل إطعام طفل أو رعاية مريض من أفراد الأسرة... أو غير مباشرة، مثل الطبخ والتنظيف. وغالباً ما تضطلع النساء والفتيات بهذا النوع من العمل المجاني، لا سيما المنتميات لفئات محرومة اجتماعياً، لكنهن لسن الوحيدات. فالكثير من النساء العامِلات خارج البيت، وربات المنازل على السواء، وحتى من الطبقة الوسطى، لا يسعهن على الأرجح تلافي تعيينهن كتحصيل حاصل في "وظائف" الغسيل والطهي ورعاية الأطفال، حتى مَن حظيت منهن بمساعدة يومية أو أسبوعية. وكم من جدال زوجي تمحور حول جدوى عمل الزوجة/الأم خارج المنزل إذا كانت "تهمل" بيتها، أو تخصص جزءاً معتبراً من راتبها لعاملة منزلية أو حاضنة أطفال... من دون أن يذهب النقاش بالضرورة إلى إمكانية مساهمة أكبر للرجال في تحمل هذه الأعباء.

واللافت، بحسب التقرير نفسه، أن هذه الرعاية التي ما زال معظمها "روتيناً واجباً" بلا مقابل مالي، لا تنحصر مفاعيلها بين جدران المنازل وفي أحضان العائلات "المستورة". بل تمتد تأثيراتها أيضاً كأحد عوامل عدم المساواة بين الجنسين في العمل مدفوع الأجر خارج اقتصاد الرعاية أيضاً، كما ضمن الأُسَر. فالمرأة التي تقوم بالجزء الأكبر من الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال، حتى مع مساعدة الزوج أو سواه، غالباً ما تراوح درجات متدنية في السلّم الوظيفي، الأمر الذي يُترجم ليس فقط في لجم طموحاتها وعطاءاتها وتمكّنها مالياً، بل تتبدى آثاره كذلك في صحتها النفسية والجسمانية، مثلما يؤثر في الاقتصاد ككل.

وفي المقابل، وفيما تتحمل النساء هذا العبء وحدهن، أو بمشاركة محدودة من رجال ما زالوا يُعتبرون نادرين حول العالم، يُحرم الاقتصاد الكلّي من مساهماتهن فيه، وتزداد هيمنة الذكور (والثقافة الميالة للذكورية) على مساحات العمل خارج المنزل، كما يتحرر الرجال من هذه المسؤوليات المتعبة والمستنزفة للوقت، ليبذلوا طاقاتهم في تحقيق ذواتهم مهنياً وجني أموال أكثر من قريناتهم الإناث.

هكذا، تساهم أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر بشكل كبير في اقتصادات البلدان، وفي رفاهية الفرد والمجتمع. القوى العاملة المجانية هذه، تلبي الغالبية العظمى من احتياجات الرعاية حول العالم، رغم وجود ملايين الممرضات والعاملات المنزليات والمربّيات اللواتي يتقاضين بدلاً مالياً لجهودهن. فمع ذلك، ما زالت هذه الأعمال "الخيرية الطوعية"، لوجه الله والعائلة والوطن، في الغالب، غير مرئية وغير معترف بها في عملية صنع القرار.

ولصورة أوضح، تظهر بيانات 64 دولة (تمثل نحو 70% من سكان العالم في سن العمل)، ما مجموعه 16.4 مليار ساعة في أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر كل يوم، أي ما يعادل مليارَي شخص يعملون 8 ساعات يومياً من دون أجر. وتتألف الغالبية العظمى من أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، من الأعمال المنزلية (81.8%)، تليها الرعاية الشخصية المباشرة (13%)، والعمل التطوعي (5.2%).

في جميع أنحاء العالم، من دون استثناء، تؤدي النساء ثلاثة أرباع الرعاية غير مدفوعة الأجر. تكرس النساء في المتوسط وقتاً بمعدّل ثلاثة أضعاف الوقت الذي يمضيه الرجال في أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر: (4 ساعات و25 دقيقة في اليوم، مقابل ساعة و23 دقيقة للرجال). ومعدّل الأضعاف الثلاثة هذا، هو نتيجة أرقام تتراوح بين نساء يؤدين هذه الأعمال المجانية أكثر بـ1,7 مرات في الأميركيتين، و4,7 مرات في الدول العربية. أي العرب هم الذين نجحوا في لكز كفة الميزان إلى الأضعاف الثلاثية المثيرة للتفكّر.

ولئن رصدت الدراسات زيادة مساهمة الرجال في أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر في بعض البلدان، خلال العقدين الماضيين، إلا أن الفجوة بين الجنسين في الوقت المُستغرَق في الرعاية غير مدفوعة الأجر، بين العامين 1997 و2012، انخفضت بمقدار 7 دقائق فقط (من ساعة و49 دقيقة إلى ساعة و42 دقيقة). هذا في الولايات المتحدة. أما في الدول العربية، فالفارق، على الأرجح، أصغر من ذلك لدرجة مخجلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها