السبت 2024/03/23

آخر تحديث: 11:10 (بيروت)

"خمسون عاماً على نصر أكتوبر": تاريخ لأصحاب الجلابيب الملونة

السبت 2024/03/23
"خمسون عاماً على نصر أكتوبر": تاريخ لأصحاب الجلابيب الملونة
حرب اكتوبر
increase حجم الخط decrease
"عانى المدنيون كثيرًا. كان من ضمن ذكرياتي المؤلمة المدنيون الذين استعان بهم الجيش (المصري) لبناء قواعد الصواريخ، حيث اعتمد على العمل اليدوي؛ لأن استطلاع العدو كان سيرصد بسهولة آلات البناء الضخمة، فلجأ الجيش إلى مقاولي الأنفار لاستجلاب العمال، وكان من ضمنهم نساء وفتية بجلابيب ملونة غير مموَّهة، وكانوا فقراء كادحين وظروفهم صعبة جدًّا؛ لأن البطالة كانت عالية جدًّا آنذاك والحرمان كبيرًا، أتوا ليعملوا من دون أن يوفَّر لهم مأكل في موقع العمل عدا ما يأتون هم به، فكانوا يعيشون على الفُتات مما تبقّى من أكل الجيش، يجوبون المعسكر ليجمعوا بواقيَ الخبز الملقَى، وفي بعض الأحيان كان الطيران (الإسرائيلي) يضربهم أثناء البناء فيحاولون الهرب بالجري في الصحراء بجلابيبهم الملونة، فكان يسهُل استهدافهم، فمات منهم كثيرون، كنا نأخذ جثث المقتولين من العمال المدنيين وندفنهم، معظمهم دون اسم، ونضع سعفة نخل أو حجر للإشارة للجثة المجهولة" (فصل "ذكريات أبي على الجبهة"، ريم نجيب، كتاب خمسون عاماً على نصر أكتوبر) 

تواصل "دار المرايا" القاهرية مشروعها الطموح للنشر، وهي تضيف إلى سلسلة من إصداراتها حول منعطفات التاريخ المصري المعاصر بغية مراجعتها وطرح سرديات مغايرة، وذلك عبر مساهمات لمتخصصين وباحثين يتناولون موضوعهم من أكثر من زاوية وبأدوات متنوعة للتحليل وبالعديد من مناهج للبحث. وغير أن هذا النوع من الكتب، متعدّد الحقول، أو العابر للحقول بمعنى أصح، يظل شديد الندرة في المكتبة العربية، فإن إصدارات "المرايا" تلك تتيح فرصة استثنائية للتعاون بين دائرة واسعة من ألمع الباحثين والكتاب في مصر والوطن العربي خارج نطاق النشر الجامعي، وبناء جسراً بين عملهم الأكاديمي والجمهور العام.

على هذا المثال، يساهم في كتاب "خمسون عاماً على نصر أكتوبر" من تحرير خالد فهمي والصادر مطلع العام الحالي، 13 باحثاً وكاتباً من مصر وسوريا وفلسطين والسعودية، من تخصصات تغطي مساحة واسعة من الحقول من الجغرافيا والتاريخ الشفوي وصولاً إلى الاقتصاد والأنثروبولوجيا.

وعلى عكس العنوان المبالغ في يقين "النصر"، تتفاوت قناعات المساهمين بخصوص معاني الانتصار، بين الحربي والاستراتيجي والدبلوماسي، وبالأخص من وجهات النظر غير المصرية، حيث ظلت هضبة الجولان محتلة وأفضى مسار السلام إلى تهميش الحقوق الفلسطينية. أما حرب أكتوبر نفسها، فأحياناً كثيرة، ليست سوى نقطة ارتكاز أو عنوان فضفاض بل وأحياناً مجرد كلمة مفتاحية، تنطلق منها الفصول أو تصل إليها، أو تحيل إلى واحد من ظلالها.

مثالاً، يقدم عاطف معتمد، في فصل أول بعنوان "ولدت لتحارب"، تاريخاً طوبوغرافياً لشبه جزيرة سيناء يستلهم مناهج الجغرافيا السوفيتية ويشمل تاريخاً طويلاً يتجاوز الحروب العربية الإسرائيلية بإجمالها. أما خالد فهمي فيشارك بفصل يتناول فيه حرب الاستنزاف، حرب السنوات الست بين "النكسة" و"أكتوبر"، وهي بالطبع أطول الحروب العربية وأكثرها تعرضاً للنسيان. وفيما يقف فصل فهمي قبل حرب أكتوبر، فإن فصلاً لعمرو عدلي بعنوان "خمسون عاماً على آخر الحروب: هل جنينا حقاً ثمار السلام الدائم؟" ينطلق من الحرب ويتتبع مسار الاقتصاد المصري على مدى العقود الخمسة التالية لتقييم تبعات السلام وترتيبات ما بعد كامب ديفيد. وبشكل أكثر بانورامية، يقدم سلطان العامر، فصلاً بعنوان "حرب أكتوبر وولادة نظام إقليمي جديد"، يسرد فيه تاريخ موجز لسياسات النفط في الدول العربية، ودورها في الحروب مع إسرائيل، ولاحقاً في تشكيل النظام الإقليمي بعد حرب أكتوبر.

ولا يقتصر فحص أكتوبر على وضعها تحت عدسة الترتيبات الإقليمية، بل تتم قراءاتها أيضاً داخل النظام العالمي وكجزء من صراع قطبيه أثناء الحرب الباردة. وعلى هذه الخلفية، يساهم سامح نجيب بفصل بعنوان "الاتحاد السوفياتي واليسار المصري في حربي 1967 و1973"، ويغطي سليم يعقوب الجهة الأخرى في فصل "عبء الاحتلال: هنري كيسنجر والصراع العربي-الإسرائيلي".

باستثناء مساهمة محمد العربي، "وقائع الحرب: مسار العمليات العسكرية على جبهتي سيناء والجولان"، فإن التأريخ العسكري لأكتوبر يغيب عن الكتاب. ولا تبدو تلك الفجوة محض صدفة، فكما يشير خالد فهمي في المقدمة، تظل معضلة حجب الأرشيف الحربي العربي متواصلة بعد خمسة عقود من الحرب. ثمة رواية تاريخية إسرائيلية موثقة ومعززة بأرشيف متاح، الأمر نفسه ينسحب على الجانبين الأميركي والسوفياتي، ورواياتهما عن الحرب. في المقابل تظل مصادر السرديات العربية عن الحرب مقتصرة على الشهادات الشخصية والمذكرات والحوارات الصحافية للقادة العسكريين والسياسيين. ولذا يشتمل الكتاب على فصل واحد فقط يعتمد على القراءة الوثائقية، هو فصل بلال محمد شلش، "في رحم الحرب: حرب تشرين أول ومآلاتها فلسطينياً"، ومع هذا يقر كاتبه بصعوبة العمل الوثائقي نتيجة دمار جزء كبير من الأرشيف الفلسطيني ونهب القوات الصهيونية لجزء آخر مما تبقى.

لكن، وكما أن غياب الأرشيف يعد عائقاً أمام البحث، فقد يكون أيضا فرصة أو حافزاً. يشتمل الكتاب على فصول تقدم تاريخاً شعبياً للحرب، وما قبلها وما بعدها. تاريخ من أسفل، هو تاريخ شفهي، وفي معظمه يعتمد على سرد جماعي بلا شخصنة ومن دون بطولات فردية، ويقدم صورة للحرب بوصفها حدثاً اجتماعياً، ملقياً الضوء على النضال غير الرسمي، وكيفية اختلاط تاريخ العمليات الفدائية مع تاريخ الغناء وتاريخ التهجير وعمليات إعادة التعمير. يقدم فصل ريم نجيب، "ذكريات أبي على الجبهة" سرداً حميماً وكاشفاً من الضابط المهندس، وسيم فريد نجيب منقريوس، يمتد بطول سنوات حرب الاستنزاف وحتى إصابته في حرب أكتوبر ومن ثم عودته للجبهة لاحقاً. ويتبع ذلك فصل لعلياء مسلم بعنوان "خلديهم يا بلدنا" عن نضال أهل مدينة السويس بين "النكسة" و"حرب المئة يوم ويوم" أثناء حرب أكتوبر، وتوثيقهم لتلك الأحداث في أغاني السمسمية.

وتخصص نيرة عبد الرحمن فصلها "العودة والغربة"، لمدينة السويس أيضاً، في قراءة لحرب أكتوبر بعيون مهجري المدينة والتغيرات التي لحقت بها بعد الانسحاب الإسرائيلي وإعادة التعمير. وفي "بدو سيناء: حكايات الاستعمار والتحرير" تقدم علا السيد تاريخاً طاوله النسيان الرسمي لنضالات أهالي سيناء تحت الاحتلال الإسرائيلي. وبمنهجية مشابهة، يسجل منير فخر الدين سجلاً لنضالات أهل الجولان تحت الاحتلال الإسرائيلي في فصله المعنون" أكتوبر على سفوح جبل الشيخ".

تظل الوثائق غائبة، ومعها الكثير من الأسئلة بلا إجابة، ومن ضمنها خطة شن الحرب نفسها، لكن، وعلى الرغم من هذا أو على الأغلب بسببه، نقرأ أسماء منسية في الأرشيف الرسمي، الكابتن غزالي من السويس الذي شارك في العمل الفدائي في ثلاث حروب 48 و67 و73، وفرقة أولاد الأرض الغنائية، وجمعية مجاهدي سيناء، وأبو عيد وأبو حميد وسالم أبو الغنايم من أبطال بدو سيناء غير الرسميين، وآل جبل من مناضلي الجولان المحتل، ومع هؤلاء النساء والفتيان أصحاب الجلابيب الملونة الذين دفنوا بلا أسماء. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها