الثلاثاء 2024/02/20

آخر تحديث: 19:17 (بيروت)

أوديسة نافالني

الثلاثاء 2024/02/20
increase حجم الخط decrease
قبل أيام، خسر التاريخ بطلاً، لكن الحكاية غير قابلة للفقدان. قد يكون أليكسي نافالني مناضلاً محلياً نال شهرة عالمية بفضل الشبكات الاجتماعية واهتمام الإعلام الدولي بظاهرة المواطن-السياسي الذي يتحدى فلاديمير بوتين في عقر داره وسطوته والفساد. لكن روسيا ليست الفضاء الأوحد لنافالني. عناده الاستثنائي، دأبه وشجاعته الفوّارَين، كنز مرويّة بشرية من مصاف ما تسعى المنظمات الأممية لحمايته من الاندثار، والاندثار أصلاً لا يصيب ما يُحكى بلا هوادة، وإن أصاب نتائجه المشتهاة.

نهاية نافالني، قصة خصم صعب ارتاح النظام الروسي وأوليغارشيته لإزاحته أخيراً عن وجه الأرض، مرة ثانية وأخيرة. إلا أن قصة حياته الصاخبة لا تُمحى بسهولة. ملحَمة معاصرة، لا تُخفى نقاط تقاطعها مع غلغامش والأوديسه. ولذلك هي، بطبيعتها، ترياق مضاد للسمّ أو سائر آثار القتل التي تنتظر آلهة الكرملين متعددة الرؤوس، تلاشيها من جسد ضحيتها، فتماطل في تسليم جثة نافالني لعائلته، قائلة: بعد أسابيع.

والملحمة هذه لا تحتاج كثير بحث أو تنقيب لتلمّس عناصرها. تكفي زيارة قناة الرجل في "يوتيوب"، أو مشاهدة فيلم "نافالني" الفائز بأوسكار 2023 لأفضل وثائقي، وقد أعادت "سي إن إن" بثه بعد إعلان وفاة الفارس في سجنه القطبيّ بعدما انقطع التواصل معه لفترة غير قصيرة.


يظهر أليكسي في مفتتح الفيلم، أربعينياً وسيماً، طافحة لغة جسده بقوة لا أحد يفهم بالضبط من أين أو ممّن يستمدها، هو الخارج لتوه من فترة علاج طويلة لتخليص هذا الجسد الحيوي نفسه والروح الخفيفة بالسخرية، من سمٍّ دُسّ له... في ثيابه الداخلية! تلك الكوميديا التراجيدية التي لم يوفّرها القتيل نفسه من تهكّمه اللاذع. وسُمُّ "نوفيتشوك" الذي لا شك أن الأجهزة تعتبرها فخر الحقبة السوفياتية، بل إنه أشبه بتوقيعها الخاص على المحاولة الأولى لاغتيال نافالني، كما قال خبراء في الفيلم، مستغربين غباء مجرم يفضح نفسه بهذه الطريقة الواضحة. أو الأصح، هي وقاحة القاتل إن اقتنع بأنه فوق العقاب بسموات سبع. والقاتل المتعجرف ليس فريداً، ولذلك بالذات، تفبض قصة نافالني عن حدود روسيا التي لا تعترف بحدود.

الأبطال الملحميون هم أفراد نبلاء، يتمتعون بقوة قتالية هائلة وشجاعة كبيرة. عادةً ما يحصلون على مساعدة من قوى خارقة للطبيعة. ينطلقون إلى المجهول والخطير، مُغامرين بكل ما لديهم. يواجهون إغراءات وتحديات. وإن فشلوا، عادوا ونجحوا في اختبارات نفوسهم البشرية المُستضعفة وألوهيتهم المُكتسبة، محققين إنجازات ليست في مستطاع سواهم. وفي النهاية، وبعد سلسلة من التجارب الشاقة والتيه، يعودون إلى ديارهم، وفي حالة أليكسي إلى حتفه.

نُبلُ نافالني في قضيته: محاربة القمع والاستبداد والفساد، في ظل دولة عمادها المافيا، وصمغها أجهزة أمنية مستشرسة. نافالني عارَض علناً، داخل روسيا، وتلقى شتى أنواع العقاب، وصولاً إلى محاولات قتله التي نجحت أخيراً. سافر، تلقى العلاج في ألمانيا، وأصرّ على العودة إلى حضن جلّاده، ناظراً في عينيه، متوقعاً نهايته المأسوية، ومنكراً إياها في الوقت نفسه. حقّه وحقوق مواطنيه، قوى خارقة تسانده في معركته مع وحش لربما كان أسطورياً لولا أنه حقيقي، أو هكذا آمَن. تلك القوى الخارقة في السردية، المُتوهَّمة في الواقع.

لعل نافالني من الأمثلة القليلة في التاريخ المعاصر، حيث يحقّق المواطن القتيل في جريمة اغتياله. هو اليوتيوبر والصحافي الاستقصائي والسياسي، المرشح الرئاسي الدائم في وجه بوتين الذي، كلما سُئل أو تحدث عن نافالني، تعمّد عدم التلفّظ بإسمه، مشيراً إليه بالمواطن أو الشخص. لكنه القتيل الذي يقوم من موته، ويكشف قاتليه. يتصل بهم هاتفياً، يحرجهم تارة، ويخدعهم تارة أخرى حتى يدلي أحدهم، بكل بلاهة الموظّف الأمني، باعتراف واضح سُجّل كاملاً ومفصّلاً.

في الفيلم، تُطلب منه وصايا لمواطنيه، في حال حملت أيامه الزائدة موته المحقّق، فيستنكر هذا الأمر "الممل". لكنه، تحت الإلحاح وأمام عين الكاميرا، يوصي بالاستمرار، وأنّ قَتلَه لن يكون إلا دليلاً على قوة خطابه وتياره، داعياً إلى استخدام هذه الطاقة في إكمال ما بدأه.

وما بدأه ليس انقلاباً عسكرياً، أو حتى ثورة. بل هو الفضح، بكل بساطة. القول بصوت عالٍ، في تحقيقات استقصائية مصوّرة ومدعّمة بالوثائق والأدلة، ما يتناقله الناس همساً وبين جدران لا تستكين الخشية من حيازتها آذاناً.

الفريسة تعود أحياناً إلى مُطاردها. عاد إلى روسيا بعدما كشف قاتليه. سُجن ثلاث سنوات، قبل أن يُفنيه الفتّاك. ربما كان خائفاً. بالتأكيد خاف، لكن شعوره بقوته غلبه، وتأكُّده من أنه أذكى من أعدائه. والذكي غالباً ظريف. وها هو يعتذر من ركاب الطائرة العائدة به إلى روسيا لأنه السبب في أنها حامت طويلاً فوق المطار المفترض أن تهبط فيه، قبل أن تتجه إلى مطار آخر، وهم يتضاحكون ويلاطفونه ويتسابقون على التقاط الصور مع النجم.


قطعاً هو الأذكى، ولا يفوّت فرصة الضحك على أحد مسؤولي الاستخبارات الروسية المضطلعة بمحاولة اغتياله الأولى. هذا المسؤول تمت قرصنة بريده الالكتروني مرات عديدة، وفي كل مرة كان يغيّر كلمة السر: "موسكو1" صارت "موسكو2"، ثم "موسكو3"... واحزروا ما كانه التبديل الأخير، يقول نافالني في الفيلم، نعم نعم، "موسكو4"! وصارت كلمة السرّ المبتكرة هذه، اللقب المتداول ضمن فريق نافالني لموظّف الاستخبارات النموذجي.

نافالني اللامع هذا، أنجز مع فريقه الصغير في منفاه القصير، فيلماً وثائقياً بعنوان "قصر بوتين: قصة الرشوة الكبرى"، ولم يبثّه إلا بعد عودته الأخيرة إلى روسيا "كي لا تظن الشخصية الرئيسية في هذا التحقيق -فلاديمير بوتين- أننا خائفون منه وأننا لا نستطيع كشف سره الأكبر إلا أثناء تواجدنا في الخارج"، حسبما كُتب أسفل الفيديو في قناة نافالني في "يوتيوب".

نافالني المتقّد بفطنة الصحافي الشاطر، وكاريزما السياسي الثائر بأدوات عصره... هذا الخير الذكي، أَرداه شرّ غبي ما زال يعتقل محبّين يتقاطرون بصمت الحداد، لكن بجرأة نافالني نفسه، لوضع الورد الأحمر على نصب ضحايا معسكرات الغولاغ كتحية لروحه المغدورة. لكن يحدث، أكثر مما نحب أن نصدّق، أن ينتصر شرٌّ غبي على خير ذكي. "موسكو4" ليس رجلاً فحسب. "موسكو4" فكرة.  

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها