الأربعاء 2024/01/31

آخر تحديث: 13:07 (بيروت)

الجيل "زِد"...جيلان

الأربعاء 2024/01/31
الجيل "زِد"...جيلان
(غيتي)
increase حجم الخط decrease
الجندر يكتسح الجيل. بات علامة قائمة بذاتها وقوية الحضور بين علامات تعيين المواقف السياسية والثقافية وأطر التفكير. علامة أقدر على القول بخصائص العقول والنفوس، مما قد يشير إليه الانتماء إلى جيل ما.

لعل المعطى الجديد هذا، الظاهر في دراسة حديثة للباحثة في جامعة ستانفورد، أليس إيفانز، هو الأكثر إثارة للاهتمام في الورقة الإحصائية. فبعدما كانت غالبية الدراسات السوسيولوجية والسياسية والأنثروبولوجية، تتعامل مع الأجيال كوحدات قياس إيديولوجية، وميزان حرارة مُعتَمد وموثوق إلى حد كبير، لاستمزاج أفكار وممارسات وتيمات مشتركة بين الأفراد المنتمين إلى جيل واحد، من دون كثير فرق في النتائج ككل بين الذكور والإناث... ها هي الفجوة، التي تقول دراسة إيفانز إنها بدأت أولى تشققاتها قبل أقل من عقد من الزمن، تتجلّى أكثر فأكثر، وبمعدلات لا تقل عن 30 نقطة مئوية.


وأبرز ما تؤشر إليه إبرة الجندر، بحسب إيفانز، هو أن الإناث ضمن الجيل "زِد"، أي جيل الشباب دون الثلاثين من العمر، أكثر تقدمّية أو ليبرالية من مجايليهن الذكور... وهو ما يفسّر، ربما، الفوارق المُحيّرة أحياناً في الاستبيانات، حيث يظهر الجيل "زِد" غاية في التقدمية في بعض المواضيع، ومُحافظاً جداً في أخرى. وهكذا، يبدو أن الجيل "زد"، فعلياً، جيلَين.

في الولايات المتحدة، وبعد عقود من التوزيع المتساوي تقريباً بين الجنسين، في وجهات النظر الليبرالية والمحافظة، أصبحت النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 18 و30 عاماً، أكثر ليبرالية، بنحو 30 نقطة مئوية. وتظهر ألمانيا الآن أيضًا فجوة قدرها 30 نقطة بين الشبان المحافظين بشكل متزايد، والشابات التقدميات، فيما الفجوة في المملكة المتحدة تبلغ 25 نقطة. وفي بولندا، العام الماضي، دعم ما يقرب من نصف الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و21 عاماً، حزب الاتحاد الكونفدرالي اليميني المتشدد، مقارنة بسُدس الشابات فقط من العمر نفسه.

وتبدو الانقسامات أوضح خارج الغرب. في كوريا الجنوبية، في الصين، وفي أفريقيا حيث أُخذت تونس كنموذج. واللافت أن هذا الانقسام الدراماتيكي في مختلف البلدان، إما يقتصر على جيل الشباب اليافعين، أو يتمظهر بشكل أوضح لدى الجيل "زد"، مقارنة بالرجال والنساء من سنّ الثلاثينات وما فوق.

وإذا كانت الدراسة تفسّر الانزياحات السياسية-الجندرية هذه، إلى حد كبير، وبين عوامل أخرى، إلى حملة "مي تو" التي انفجرت للمرة الأولى قبل سبع سنوات، فإن الموضوع ما عاد يقتصر على الموقف من القضية الأصلية، أي التحرش الجنسي. لكن يبدو أن هذه القضية كانت، ولا تزال، الأكثر تأثيراً في صوغ الموقف السياسي من سائر القضايا، أي بالمعنى الكلّي الأشمل: صوب المزيد من المُحافَظة للشبان، والمزيد من الليبرالية للشابات. مثلاً، في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا، تتخذ الشابات الآن مواقف أكثر تسامحاً بشأن الهجرة والعدالة العِرقية، مقارنةً مع الشبان، في حين تظل الفئات العمرية الأكبر سناً متطابقة بالتساوي.

ثمة بين محللي الدراسة مَن يرى تغييراً ملموساً وقد طرأ على النمط القديم، في معظم البلدان، والذي كان يقول بالتحول السلس للنساء إلى اليسار، بموازاة ثبات الرجال في مواقعهم السياسية. فهناك الآن دلائل على أن الشباب يتحركون بنشاط إلى اليمين في ألمانيا، مثلاً، حيث أصبح الشبان تحت سن الثلاثين، يعارضون الهجرة، أكثر من الأجيال الأكبر سناً، بل تحول جزء معتبر منهم في اتجاه "حزب البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف خلال السنوات الأخيرة.

غني عن القول إن العالم العربي يفتقر إلى مثل هذه الدراسات، لأسباب كثيرة، لعل أهمها الافتقار إلى الحياة السياسية نفسها في معظم دوله. فمعرفة التوجهات السياسية للشباب، يُفترض أنها مسبوقة بواقع أصواتهم المؤثرة، بإحساسهم بالحرية في التمايز عن أهلهم وجماعاتهم. بالإضافة إلى افتراض بوجود رغبة أصيلة لتحقيق هدف كهذا، سواء في انتخابات شفافة وديموقراطية في الحدود الدنيا، أو في المجال السياسي والثقافي العام (لعل هذا ما يفسر اختيار تونس كعيّنة عربية رغم كل مشاكلها وتناقضاتها)... فكيف بالحري حين نتحدث عن الشباب الأكثر يفاعة؟ وعن الإناث بينهم؟! وفي مجتمعات غالباً محكومة بالأبوية، من أعلى هرم الحكم إلى غرف نوم الأولاد؟

يفترض هذا النوع من الدراسات وجود سيستم ديموقراطي ما، لتتجلّى دلالات النتائج التي يتم التوصل إليها، سواء في حرية صوغ خطاب جيليّ والتعبير عن رأي، أو تعدد الأحزاب والتيارات السياسية، أو عملية تداول السلطة بموازاة صناعة القرار، أو حيازة الأفراد ما يحميهم من مختلف أنواع الترهيب والتنمّر، الدولتي أو المجتمعي، إذا ما خالفوا القطيع الإيديولوجي الذي ينتمون إليه. وهذا، كما علمنا وذقنا، ما لا يتوافر في العالم العربي المكلوم بعِلله المعروفة.

لكن، ثمة في دراسة إيفانز، ما يمكن للعرب اعتبار أنفسهم معنيين به: السوشال ميديا التي ساعدت الباحثة كثيراً في مهمتها. ليس فقط بما يعني حملة "أنا أيضاً" التي لم تفُت المستخدمين العرب، ليس تماماً، وإن لم تحقق فاعلية حقوقية ملموسة في الواقع. فالسوشال ميديا، كما لاحظ قارئو إيفانز، باتت تشكل معظم فقاعة الأفكار التي تسبح فيها الجموع، لا سيما الأكثر شباباً. والحال إنها بالأحرى فقاعات متعددة. فلا حساب اجتماعياً يشبه الآخر، وكل "نيوزفيد" يكاد يكون متفرداً في المنشورات والمشاركات التي تظهر فيه، لكن المؤكد أنه ثمة ملامح جامعة لشبكات الإناث في مقابل الذكور. وفي ظل انحسار المؤسسات المعرفية العربية الجدية، والأطر الحرياتية التي تتيح استطلاع عوالم الجيل "زد" العربي، بذكوره وإناثه، ربما تكون السوشال ميديا منطلقاً أوّلياً لدراسات من هذا النوع يحالفه الحظ بالحصول على تمويل واهتمام بحثي، ينجز صعوده في أجندة الـ"مَن، ولماذا، وكيف"، أسوة بالعناوين العسكرية والتنموية...والاستخباراتية. فقط ربما، ويا حبذا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها