الخميس 2024/01/25

آخر تحديث: 15:28 (بيروت)

الهجرة إلى النبي أيوب

الخميس 2024/01/25
الهجرة إلى النبي أيوب
النبي أيوب في نيحا الشوف - جبل لبنان
increase حجم الخط decrease
"إن العالم لا يمكن أن يكون وهماً من تلقاء ذاته، بل وفقاً لما نعتقد به أو لا نعتقد"

 بول فاين

"هل اعتقد الإغريق بأساطيرهم؟".

... كان ذلك في شتاء العام 1995 لما ألمّت بي حالة نفسية دفعتني لأن أرمي بندقيتي ومسدسي فوق السرير في مخفر البسطة ببيروت والتوجه إلى محلة الكولا حيث استقلّيتُ حافلة إلى بلدتي نيحا الشوف دون أن أعلم أحداً بالأمر. وصلت إلى نيحا وقمت بتسلق الجبل وصولاً لمقام النبي أيوب، لم يحل تراكم الثلوج دون وصولي إلى هناك. تفاجأ الشيخ "سايِس" النبي وزوجته العجوز بي وكأني انبثقتُ لا أحد يعلم من أين.
"جايي أوفي نذر". اقتصر حكيي معهما على هذه العبارة فقط.

مكثتُ في النبي أيوب أيامماً داخل غرفة صغيرة لم أكن أبارحها إلا فجراً أو عند المغيب. هي تجربة في الرهبنة والتخلي وبشكل خاص في الصمت. علّمتني تلك التجربة أن أقصى علاقة لنا بالعالم تقوم على البُعد، على عدم السعي للإستحواذ على مكان بين الآخرين وأكثر ما علمتني الزهد. فالعالم بمنتهى الروعة عندما يتم اختزاله إلى محض سكوت وتساقط الثلوج وصوت الهواء العاصف وثغاء الماعز المنطلق من التلال المقابلة لتلة أيوب النبي. تحقق عندي آنذاك أن الصمت يمكن أن يكون لغة من نمط آخر، لغة قادرة على أن تستوفي كل شروط الوجود في العالم، أما الضجيج فهو بمثابة سعي بخس يحطّ من قدر الإنسان.

السؤال الأول الذي يدعونا عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ إلى طرحه على أنفسنا انطلاقاً من الكتاب الذي وضعه عن أيوب هو: ما الذي يملكه الإنسان ولا يملكه الرب؟!!

لا ينبئنا يونغ بالجواب لكن الكتاب يحفل بالإشارات إلى وعي الإنسان بارتباكاته، بتناقضاته وبمساءلة نفسه على الدوم، وهو ما لا يعيه الرب إزاء نفسه بحال من الأحوال. فنحن البشر، أغراض الرب، كما جاء في سفر أيوب يقوم وجودنا في العالم على محض الصراع، على محض التناقض وعلى محض مخاتلة النفس إزاء ما نرغب فيه أو ما نفر منه لاهثين أما الله فمكتف بنفسه إلى حد الملل.

لا يطالعنا يونغ بجواب شاف حيال علاقة أيوب بربّه لكنه ومنذ البدايات الأولى للكتاب يحتفي بضآلة أيوب وضعفه ومن ثم حذره الشديد بسبب هذا الضعف بالذات. بالنسبة ليونغ إن سفر أيوب هو بالعمق مساءلة الرب لذاته، استجواب موارب لهول قدرات الإله إزاء نفسه، لكن هذا السفر هو في نهاية الأمر – كما يهمس لنا يونغ - بمثابة مدوّنة أراد الرب عبرها إفهام البشر أنه بحاجة لنا كبشر كما نحن بحاجة إليه.

ليس المقدس ها هنا محلّ تعال وانفصال لكنه بالأحرى محل انجدال مع لا تناهي الأسئلة والإستفسارات وبشكل خاص الإنفعالات. يسأل أيوب ربه في سفر أيوب: "لماذا تحجب وجهك وتحسبني عدواً؟"... ويسأل أيضاً وقد خضّه الإنفعال: "فهّمني، لماذا تخاصمني؟!" ليصل أيوب، العبد المطيع لخالقه، في نهاية الأمر إلى الحقيقة التالية: "الأيام تتكلم وكثرة السنين تظهر حكمة".

لا يقدم لنا العالم السويسري في كتابه عن أيوب تعريفاً واضحاً لانفعالاتنا كبشر حيال علاقتنا مع الإله لكن العالِم الألماني جرشوم شوليم المتخصص في التصوف اليهودي يقول لنا في واحد من كتبه، إن الدرس الأبلغ الذي تمدّنا به القابالا هو أن انفعالات الإنسان، جراحه وآلامه، صبره، تحديقه في الخلاء، إغماضة عينيه وبشكل خاص صمته ليست منفصلة على الإطلاق عن الجوهر الإلهي إنما هي تمظهرات حية للحياة السرية للإله. نعم، الحياة السرية للإله... إن الرب يتألم أيضاً ويجب علينا نحن البشر الأخذ بيد الرب. ربما هذه هي الحكمة التي تظهرها السنين والتي أشار إليها أيوب في سفره، في رحلة آلامه وصولاً إلى السكينة والسلام والتصالح مع ربه اليتيم.

تعلّمنا الفيلولوجيا أن الجذر اللاتيني لكلمة pain هو poena وهي كلمة تحيل إلى الألم والبلاء أما اللفظ الإغريقي poine والمشتق من جذر أعتق pu فهو يعني التكفير عن الخطيئة وصولاً للمصالحة مع الذات، السكون والطمأنينة والتخلي، ثم مقارعة ضوضاء هذا العالم عبر الركون إلى الصمت. فليست الإنفعالات بنهاية الأمر، ودائما مع المعجم اللاتيني، إلا motus animi أي حركات الروح وصراعها مع نفسها ثم جنونها وهدأة بالها في سعيها للصفاء والسكينة بنهاية المطاف.

ثمة ما يشبه الإجماع بين أصحاب التجارب الروحية على الإيمان بأن هذه التجارب إنما هي تجارب عميقة بلا ملامح محددة وبلا وجه وبلا صوت. أكثر ما يستبدّ بخاطري لدى عودتي بالذاكرة إلى أيامي في مقام النبي أيوب أن الضجيج، ضجيج العالم، هو عقاب هو سوط ينهال به العالم المقيت فوق جلد سكينتنا بالذات.

في رائعته "عالم الصمت" يعلّمنا ماكس بيكارد أن الصمت مثل الإله لا بداية له ولا نهاية. الصمت هو اللامرئي بإمتياز لكن وجوده واضح المعالم والقسمات... ومن نِعم الحظ على المرء ألا يكون مُراقباً إلا بوابل من الصمت وهو ما عايشته حرفياً فوق تلك التلة الشاسعة في مقام النبي أيوب، وإن كان الصمت هناك قد تلوّن بصوت الريح وهطول المطر وحفيف الأشجار واللغة الأم أي صوت ثغاء الماعز والأغنام... الأصداء الأخرى لصوت الرب.

ليس من يسر الأمور في هذا العالم الضيّق والضاج استشعار المسافة اللامتناهية للصمت ثم الإنصات إلى هسيس المادة الخام التي يتكوّن منها الكلام، أعني الصمت.

جاء في سفر أيوب، "قال الرب للشيطان من أين جئتَ؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجَوَلان في الأرض، ومن التمشّي فيها". ربما الشيطان في هذه العبارة هو عينه ذلك الضجيج الذي يلفّ الأرض من كل حدب وصوب، ربما الشيطان هو تلك الضوضاء التي تجيد طرد الربّ.

في نص له عن الكوابيس، يقول خورخي لويس بورخيس أنه وصل إلى استنتاج مفاده أن الأحلام هي من أكثر النشاطات الجمالية قدماً. بيد أن ما لم يقله بورخيس هو أن تلك المسافة بين القديم والحديث تنتفي بالمطلق عندما يأخذ الصمت بتلابيبنا كبشر، وليست التجربة الجمالية في هذا السياق إلا واقعة محض جوانية... ربما الجمال في هذا المحل هو عينه الإله، هو ذلك الثغاء المنطلق من أسفل المنحدر وهو أيضاً صوت المطر وصوت الريح وصوت الصمت.

إن الممارسة التأويلية (الهيرمينوطيقية) الأولى للنصوص الدينية في الغرب قادت أهل التأويل للقول أن للنبوءة صفة اللغز وهي الصفة التي تحفظ – بحسب هؤلاء القوم – شرف الأرباب... ويبقى الصمت في هذا المجال هو الأقدر على حبك خيوط اللغز. إن امتلاك مشهد الصمت يرمم اللغز، يلطّف وجه الإله... يخفف من وقع الكارثة. فالكارثة هي سمة من سمات الإله المسكين والذي تراه يستنجد الخلاص عبر بعض فسحات صمتنا في بعض المقامات.

تزخر الكتب الدينية التي تحاول تلمّس وجه الربّ في العالم بكم هائل من الكلمات، لكن تاريخ الكلمات يمهّد كل السبل أمامنا للقول أن كل كلمة تزخر بكم لا متناهي من الصمت. قد تحيد الكلمات عن وجاهة صمتها فتقع في لجة الضجيج، ضجيج الحروب الصليبية تارة وحروب الفتوحات الإسلامية تارة أخرى وما نشاهده في غزة منذ السابع من أكتوبر على سبيل المثال... إن الرب هنا حزين، مُبَلْبَل القول واللسان وخالي الوفاض.

يخبرنا الباحث اللغوي ماكس موللر أن تاريخ الدين هو بمعنى ما تاريخ اللغة (نقلاً عن "لغات الفردوس" موريس أولندر) بيد أن تلك القعدة في مقام النبي أيوب والتي حفرت نفسها في ذاكرتي إلى أبعد الحدود أينعت في روحي حقيقة أخرى تقول إن تاريخ الله هو تاريخ الصمت، وتاريخ الصمت هو هو حاضره في كل حين. أما تلك الكلمات الكثيرة والتي تزخر بها كتب الله فقد أثبتت – كما يعلمنا التاريخ – فشلها في الإستحواذ على نعمة الصمت، على نعمة الهدوء.

يقول لنا كارل غوستاف يونغ في كتابه عن أيوب أن سفر أيوب ربما يكون قد كُتب بين 600 و300 قبل الميلاد، أما تاريخ البشر فيقول لنا أن هذا السفر العظيم يخطّ حروفه في العالم كل يوم... كل يوم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها