الأربعاء 2024/05/01

آخر تحديث: 10:51 (بيروت)

كوكو شانيل: الحياة كتجربة تديرها الصُدفة

الأربعاء 2024/05/01
كوكو شانيل: الحياة كتجربة تديرها الصُدفة
"إذا وُلدتَ من دون أجنحة فلا تفعل شيئاً لمنع نموها"
increase حجم الخط decrease
"الصُدفة تنقذنا من عيوب كثيرة" - فرانسوا دو لاروشفوكو

ثمة ما يشبه الإجماع بين الذين تصدوا لكتابة سيرة غابرييل شانيل، المعروفة لاحقاً بكوكو شانيل، على الغموض الذي يكتنف طفولتها، وما زاد من حدة هذا الغموض وتشعبه، تعمّد المصممة الفرنسية الشهيرة في التالي من السنوات والعقود إيراد قصص متباينة عن هذه الطفولة. وقد شبّه الكاتب الفرنسي بول موران، وهو من أبرز المقربين منها، بل أنها لجأت إليه لكتابة مذكراتها، شبّه تعديلات قصص شانيل لأحداث طفولتها بتلك التعديلات التي تجريها على هذا التصميم من تصميماتها أو ذاك كي يتناسب مع ما يعتمل بداخلها من متاهات واضطراب.

وُلدت شانيل في 19 آب 1883، وفي إحدى المقابلات أصرّت على القول أنها وُلدت خلال رحلة بالقطار. توفيت والدتها عندما كانت في الحادية عشرة من العمر، أما والدها فعمد، بعدما وضعها وشقيقتيها في أحد الأديرة الذي يعج باليتامى والراهبات، إلى المغادرة إلى الأبد رغبة منه بتحقيق "الحلم الأميركي" كما صرحتْ في أحد اللقاءات.

على الرغم من الأجواء التي صاحبت إقامتها في هذا الدير، تراها في مرحلة لاحقة من حياتها تعمد إلى تصميم بعض جوانب فيلاتها بملامح قريبة جداً من ملامح هذا الدير الذي يقع في مدينة أوبازين والتي تعود من جهة عمرانها إلى القرون الوسطى.



كانت كوكو شانيل تصرّ على النهايات التي تعود إلى البدايات. وبدايات شانيل في ذلك الدير/الميتم، لم تفارقها يوماً. بيد أن إعادة الصياغة التي لم تنته يوماً لتلك البدايات الغامضة، لتلك الأصول المتضاربة، عدّل من حدة وقعها، بل ترى تلك الصياغات وقد طمستْ إلى حد ما الأصول الأولى لكوكو شانيل. تقول جوليا كريستيفا، وهي مصممة إنما من نمط آخر: "إن العودة إلى الأصول ليس بالأمر الضروري، فهذه العودة قد تكون ردّ فعل للشعور بالألم، بل ترى تلك العودة وقد تحولت إلى حقد مكثف"، وهو الحقد الذي نجت منه شانيل أخذاً في الإعتبار حبها لوالدها حتى اللحظات الأخيرة من عمرها المديد على الرغم من رميها في الميتم والتواري بعيداً.

لم تأتلف شانيل يوماً مع مرحلة الدير التي امتدت سبع سنوات من عمرها حيث "تربيتُ على الشعور بالحزن والرعب"، إذ وكما صرّحتْ لحفيدة شقيقتها جوليا التي انتحرت عندما كانت شانيل في مقتبل العمر، "لقد كنت دائماً مهتمة بما سيأتي وليس بما قد انتهى"، وهو ما تمسكت به ملياً لدى موت شقيقتها الأخرى، انطوانيت، بسبب إدمانها على الكحول.



كثيراً ما عمدت شانيل إلى الإستعانة ببعض من أصدقائها الموتى – كما كانت تسمّي كتابها المفضلين من القدماء – لدى تعرضها للإنتقاد بسبب تلك القصص المتباينة التي تبثها عن طفولتها وصولاً إلى مكوثها بين الراهبات في الميتم ... "ولما لم يكن لي من السن والتجارب ما يجعل في طوقي أن أبتكر الشخصيات الخيالية، أرجو القارىء أن يعتقد بأن القصص التي أسردها حقيقية"، كما لطالما نقلت عن واحد من هؤلاء الأصدقاء، ألكسندر دوما.

فهذا الشبح المراوغ وبعيد المنال، كما وصفت إحدى الكاتبات كوكو شانيل، كانت ترى في ملازمتها لهذا النمط من الأصدقاء ملاذاً صادقاً، حيث ينقل المقربون منها أن مكتبتها كانت تطفح بنسخات قديمة من كتابات هوميروس ومذكرات كازانوفا واعترافات القديس أوغسطين وحوارات أفلاطون ومسرحيات شكسبير، فضلاً عن نسخ عديدة من الكتاب المقدس. أما تلك الرغبة الصارمة بطلب العون من الموتى، فيعود أيضاً وأيضاً إلى أيامها في الدير حيث كانت تقفز من فوق الجدران وتهرب إلى مقبرة قريبة، وعقدت صداقة متينة مع ناس هذه المقبرة..."فالموتى هم أول أشخاص فتحت لهم قلبي".

ولا مرة تجاوزتْ الحياة، بالنسبة إلى كوكو شانيل، كونها تجربة تقوم على محض الصدفة..."لقد صرت مصممة أزياء بالصدفة – تقول لبول موران – وصنعت العطور من طريق الصدفة وأنا الآن بصدد معالجة شيء آخر أيضاً من طريق الصدفة. ما هو؟ - تسأل نفسها – لست أدري، لست أدري".

فالموضة ليست مجرد ملابس ،كما صرحت في إحدى المقابلات. الموضة، شأن كل شيء في هذه الحياة، "محمولة على جناح الريح... وما علينا سوى أسرها خلال طيرانها".

كل شيء زائل في هذا العالم، لكن لا شيء يموت بالمطلق، وقد عززت القراءات الصوفية للأناجيل من وقع هذه الفكرة في ذهن كوكو شانيل. وليس من باب الصدفة أن تعنون مجلة "تايم" في آب 1960، خبر زيارة شانيل للولايات المتحدة بالعنوان التالي: "الكاهنة الأكبر في عالم الأزياء".

الموضة بالنسبة إلى شانيل التي لم تكف العزلة عن محايثة أيامها، حتى في عزّ توهجها بضروب الشهرة والعلاقات الكثيرة، الموضة بجوهرها هي صقل العالم بما يتناسب مع الزائل، مع المؤقت ومع هذا السعي العبثي إلى الكمال في هذا العالم، مرددة في هذا السياق أصداء عبارة صديقها ثم عشيقها المتقطع سلفادور دالي: don’t be afraid of perfection you’ll never attain it.

فالكمال في هذا العالم تموضع بالنسبة لكوكو شانيل في السعي إلى الكمال أما الوصول إليه فليس إلا بالأمر الزائف.



إذا كانت الذاكرة هي المادة الأولى للتاريخ بالنسبة إلى المؤرخين فإن مادة التاريخ الأولية بالنسبة إلى "كوكو" إنما هي تلك الأمور التي تعلمتها عندما كانت طفلة في الدير: الحياكة وشد الأزرار إلى الملابس بانتظار سقوطها من جديد. ولعل كل تصميم ابتدعته كان محاولة مؤقتة منها للبحث عن شكل آخر للعالم، للطفولة، للحياة ولما بعد الحياة. فكوكو شانيل "التي احتاجت إلى قتل شيء ما في نفسها حتى تتمكن من الهروب"، كما قال أحد كتّاب سيرتها، هذه "الطفلة الضائعة"، كما دوّن كاتب آخر، أجازت لنفسها زرع الإرتباك في كتابة السيرة لدى الكثيرين من المتخصصين في هذا الشأن. ولعل الملامح المفقودة في وجهها في تلك اللوحة التي رسمها جان كوكتو، لشانيل في العام 1933، تعكس حقيقة طفولتها وانسحاب هذه الطفولة إلى التالي من السنين والتي امتدت عقوداً طويلة... ماتت شانيل في 10 كانون الأول 1971.

تجاوزت الملابس في عرف صديقة جان كوكتو، وهي التي لازمته منذ العام 1922، عندما شاركت مع بيكاسو في الإعداد لإحدى مسرحياته، تجاوزت الملابس في عرفها وكذلك العطور ومساحيق التجميل عن أن تكون أدوات تزيين أو تجمّل، ففي ذهن هذه المصممة أن الثياب في بعض متونها هي نوايا الروح والعطور، هي أدوات إرشاد من طريق الأنف، تماماً مثل حيوانات الغابات، أما الشفاه فهي لسان القلب، وكيفية الإنشغال بهذه الشفاه يعكس في العمق حقيقة ما يعتمل عميقاً داخل القلوب.

على الرغم من تلبيتها شرط الحياة من جهة الشهرة والمال وحياة الترف، كتبت شانيل: "الترف هو ضرورة تبدأ عند انتهاء الضرورة". فما هي الضرورة الأولى التي لدى الإنتهاء منها عاشت شانيل الضرورة الثانية، ضرورة الترف؟ لا أحد يدري...

عقب انتهائها من قراءة لاروشفوكو، والذي نصحها بقراءته واحد من عشاقها الكثر، الشاعر الفرنسي بيير ريفيردي، كتبت شانيل العبارة التالية: "إذا وُلدت من دون أجنحة فلا تفعل شيئاً لمنع نموها". لعل الإجابة على السؤال أعلاه تكمن في هذه العبارة الأخيرة. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها