الجمعة 2022/08/12

آخر تحديث: 13:50 (بيروت)

رف الكتب الإلكتروني، الفلاش ميموري ينتقم للجاحظ

الجمعة 2022/08/12
رف الكتب الإلكتروني، الفلاش ميموري ينتقم للجاحظ
شجرة المعرفة
increase حجم الخط decrease

دار بلومزبري في لندن ونيويورك، دأبت على نشر سلسلة جميلة من الكتب بعنوان طريف هو "دروس الأشياء". كل كتاب يتناول موضوعاً، أو شيئاً، لا يخطر لأحد، عادة، أن يتناوله أو يكتب عنه. هذه بعض العناوين: مقبض الباب، الريموت كونترول، الزجاج، الصمت، البراد، كلمة السر، الخبز، ولاعة السجائر، اللحاف…الخ...

الكاتبة الأميركية ليديا باين، ساهمت في هذه السلسلة بكراس عن «رف الكتب»، هي التي  تعمل باحثة غير ملتزمة في جامعة تكساس وتكتب في صحف مثل «ذي نيو بيج»، «ذي نيو جورنال»، «نيويورك تايمز» وغيرها. هي تمسك بتلابيب التاريخ لتعود إلى اللحظات الأولى التي فكر فيها أحدهم في أن يقيم رفاً للكتب في بيته.

كما يشير الاسم، فإن الرف لا ينهض إلا حين يكون هناك أكثر من كتاب. الكتاب الواحد لا يحتاج إلى رف، يمكن وضعه في أي مكان. تنشأ الحاجة للرف حين تتكوم الكتب.

حدث ذلك حين قررت الآلهة أن تنقل وصاياها وتعاليمها وأساطيرها إلى الناس. نهض الكهنة والعرافون بالمهمة: تدوين الصلوات والأدعية والقصص والحكايا في لفائف واسطوانات. كثرت وتكومت. أين توضع هذه المخطوطات؟

كان الفراعنة سباقين. ثم تبعهم البابليون والآشوريون، كالعادة. من بيوت العبادة في بابل وسومر ونينوى وإيبلا انتقلت الرفوف إلى قصور السلاطين والملوك. الرسائل والوصايا والخطب والقوانين والدساتير، رقدت على الرفوف كي تتلقفها الأيدي بيسر وسرعة. انتقل الرف إلى بلاد الإغريق والرومان. في الجانب الآخر من المعمورة كان البوذيون والكونفوشسيون يقيمون رفوفهم الخاصة بهم.

هكذا أضحى رف الكتب قطعة أساسية من جسم كل كيان معمور، وبات لا يمكن الاستغناء عنه كواحد من مستلزمات الشخصية الفردية، والجماعية، الإنسانية. قال شيشرون، الخطيب الروماني البارع: البيت الذي لا يحتوي على رف الكتب كالجسد الذي لا روح فيه.

وكما في كل بيت باب ونوافذ ومواقد وغرف نوم هناك دوماً مكان خاص لرف الكتب. لكل رف سحنته الخاصة التي تعكس ذوق وشخصية صاحب البيت. رفوف

 دائرية، مربعة، مستطيلة. رفوف أفقية، عمودية. رفوف من خشب أو حديد.

رفوف مغقلة بنوافذ زجاجية.

تضم رفوف الكتب كتباً بالطبع ولكنها، في ثنايا هذه الكتب، تضم أمزجة وميولاً ونزعات ونزوات ورغبات وشهوات. كما أنها تضم سلوكاً وقيماً وأخلاقاً. ولكل رف ذكريات مع صانعه، صاحبه: أحلام وأشواق وآهات وخيبات أو نجاحات.


رف الكتب قطعة خاصة فريدة من قطع أثاث البيت، أي بيت، وهو، لذلك، يختلف من بيت إلى بيت. نظرة على رف الكتب في بيتك بوسعها أن تعطيني فكرة وافية عن شخصيتك وأفكارك وميولك السياسية والأدبية والأخلاقية.

رف الكتب إشارة سيميائية، رسالة، منظور فردي، وجهة نظر ثقافية.

في بعض البيوت يكون الرف جزءاً من الاستعراض، عرضاً للزينة. ويكون أحياناً حمالاً لأشياء أخرى، غير الكتب: صور العائلة أو الحاكم. صورة غيفارا. تمثال لينين. صورة المسيح أو صورة الكعبة أو بوذا. يكون حمال تحف وزخارف ومزهريات ودببة صغيرة ومجسمات من البلدان التي زارها صاحب البيت، مجسم برج إيفل، تاج محل، برج بيزا، جسر بروكلين. لكل رف حكاية مختلفة. رف كتب في مقهى بوهيمي في براغ ليس مثل رف كتب في مكتب الكونغرس الأميركي.

رفوف كتب الأطفال، تعكس أفكار وأهواء ومشاغل الآباء والإيديولوجيا التي يحملون لواءها.

أحياناً تستقر آلة تسجيل، بين الكتب، في الوسط، أو في طرف. في بعض الأحيان ترافقها أشرطة واسطوانات لمغنين ومغنيات، يحصل أن نضع الشريط أفقياً لتظهر صورة المغني أو المغنية للرائي.

أحدهم يضع على الرف قنبلة يدوية، فوهة بندقية، رصاصة فارغة وضعت فيها زهرة بلاستيكية، أرجيلة، مسبحة يدوية من الحج، قرآن في غلاف قماشي أخضر.

ولكن رفوف الكتب أشياء خطيرة في بلاد أو أزمنة معينة. تكون شاهد إثبات على جرم خطير. جرم المساس بالأمن. في الأفلام السينمائية التي تعالج الأحوال في الأنظمة الشمولية والدكتاتوريات الفجة فإن رجال شرطة التحري، حين يقتحمون بيتاً، يتوجهون قبل كل شيء إلى رفوف الكتب. يبعثرون الكتب، يرمونها أرضاً.

يرحل الرف مع صاحبه. مثل قط أليف. يطويه برقة. يضعه، هو والكتب، في سيارته ويمضي به إلى مسكنه الجديد. يبدأ  معه عمراً جديداً. ذكريات جديدة. كتباً جديدة. تذهب كتب. تأتي كتب جديدة. تنقضي مرحلة وتبدأ مر حلة جديدة.

يأتي الكتاب الجديد فتتهيأ الكتب لاستقباله. تنزاح ألف ليلة وليلة قليلاً، يتراجع بورخيس، ينسل الكتاب الجديد، خجولاًٍ ويلتقط أنفاسه، يطأطأ رأسه ويحي الجميع. يرحبون به. يعلو الغبار من تدافعهم لرؤية رفيقهم، صديقهم، قريبهم، الجديد.

سيبدوأن الليالي يقصون فيها حكاياتهم ومغامراتهم.

يقال إن ملك الجان جاء يوماً إلى الجاحظ وقال له: بلغني أيها الكاتب أنك رجل حكيم ولك رأي سديد في شوؤن الناس والكائنات فكتبت عن أحوال البخلاء وسطرت في أمور الحيوان فجئت ألتمس أذنك في أن تضع كتاباً في أحوالنا نحن الجن. قال الجاحظ وما أحصل عليه مقابل ذلك؟ قال ملك الجان: أعرف أنك تشقى كثيراً في جمع صحائفك وترفيف كتبك وتسنيد مخطوطاتك وأنك تنوء تحت حملها ولا تقدر أن تأخذ ما ترغب منها أنى رحت فأريد أن أهون عليك وأخفف عنك الغلواء. قال الجاحظ: وكيف ذلك؟ قال ملك الجان: أعطيك صحيفة رقيقة من معدن صقيل بشاشة تضيء ثم أجمع ما تريد من كتب ولفائف في قطعة معدن تضعها في كف يدك مثل خاتم في إصبعك وفي المكان الذي تذهب إليه تدخل رقاقة المعدن في خصر صحيفة المعدن فتلمع الشاشة ويظهر الكتاب الذي تريد، وبذلك تتخفف من هذه الرفوف الثقيلة التي تقيد رجليك. لم يرض الجاحظ بذلك فغضب ملك الجان وأمر جنده أن يذهبوا إليه، حين يكون مستلقياً في حجرته، فيدفعوا رفوف الكتب عليه ففعلوا ذلك وهبطت الكتب على رأس المسكين وتكومت من فوقه فاختنق.

لم يحدث هذا الشيء بالطبع. ولكن لو أن أحداً ظهر في وقت الجاحظ وصنع ذلك الجهاز الرهيب، لوفر عليه الوقت والجهد والفسحة ولما مات مختنقاً تحت الكتب.

رف الكتب الإلكتروني، الفلاش ميموري ينتقم للجاحظ. في وسع أي واحد منا الآن أن يحمل أطناناً من الكتب والملفات والمخطوطات والخرائط والصور في قطعة معدن بحجم خاتم إصبع، ويمضي به احيث يشاء. في البيت أو المقهى أو الفندق أو في السيارة والطيارة. يرحل من بلد إلى بلد حاملاً تلك الرفوف الثقيلة من الكتب محشورة في جيب قميصه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها