الخميس 2022/12/08

آخر تحديث: 11:54 (بيروت)

عندما سجّلت كيت ميليت للعالم أصوات الثائرات على "تشادور"1979

الخميس 2022/12/08
عندما سجّلت كيت ميليت للعالم أصوات الثائرات على "تشادور"1979
من التظاهرات النسائية التي ملأت طهران في آذار/مارس 1979
increase حجم الخط decrease
في 16 يناير/كانون الثاني 1979، حمل الشاه الإيراني حقيبته وترك إيران منهياً حكم السلالة البهلوية التي استمرت قروناً. بعد أسبوعين، أي في الأول من فبراير/شباط، حطت طائرة آتية من باريس، في مطار مهرآباد، في طهران، وعلى متنها آية الله الخميني.

كانت التجمعات والمسيرات والمظاهرات العارمة قد أجبرت الشاه على التنحي عن السلطة. شارك الجميع في ذلك: طلاب المدارس والجامعات والعمال وأهل البازار والفلاحون ورجال الدين والموظفون. كذلك شاركت الأقليات القومية والدينية: الكرد والبلوش والزرادشتيون والمسيحيون والبهائيون. كان للنساء دور فعال، بل حاسم، في ذلك الحراك التاريخي. في السادس من شباط  نقلت صحيفة كيهان عن مساعد الخميني صادق قطبزاده، أن "النساء يتمتعن بالحرية في الإسلام". في 25 شباط تشكل "جمعيت زنان مبارز" (اتحاد النساء الثوريات)، وأصدر بياناً قال فيه أن الإتحاد مفتوح لكل النساء مهما كانت توجهاتهن السياسية أو الفكرية. تحدث الخميني إلى مجموعة من النساء وطالبهن بالمشاركة إنهاض البلد.

في أربع جهات الدنيا كانت الأنظار مشدودوة إلى بلد الفردوسي و…فروغ فرخزاد. تقاطر ناشطون ومثقفون وصحافيون وكتّاب من بلدان كثيرة. وفي نيويورك لم تستطع كيت ميليت أن تكبت نفسها. كانت تتحرق للذهاب إلى البلد الذي "هزت فيه النساء عرش الطاغية". هكذا وصلت هي وصديقتها صوفي كير إلى مطار مهرآباد في 4مارس/ آذار، للمشاركة في احتفال اليوم العالمي للمرأة في الثامن من الشهر. رأت أن ثمة بداية بزوغ للحركة النسوية في إيران، أول حركة نسوية مستقلة في بلد إسلامي، حيث "أكثر النسويات نضجاً".

كيت ميليت، هي الكاتبة اليسارية الأميركية والناشطة النسائية المدافعة عن حقوق النساء. شبهتها مجلة "تايم" بماوتسي الحركة التحررية النسوية. كتابها الشهير، "سياسات الجنس"، أشبه بمانيفستو الحركة النسوية، على غرار المانيفستو الشيوعي لكارل ماركس.

نزلت كيت في فندق شيراتون وقد عبّرت على الفور عن امتعاضها من الطابع الغربي الحديث "المقرف" للفندق. جاءت لتكون شاهدة على انبثاق حركة تحررية للنساء في إيران، على روح الكفاح ضد "الشاه والإمبريالية والروح الغربية". جاءت وهي تحمل رسائل من كل الحركات النسائية في العالم (يبدو أن أممية نسوية كانت تتشكل في تلك الآونة).

سقط الشاه، لكن سرعان ما سقطت الآمال التي كانت اختمرت في أعماق الإيرانيين. أحكم الإسلاميون، بزعامة الخميني، قبضتهم على البلاد وبدأت آلة القمع تعمل من جديد.

في 6مارس/ آذار، بعد يومين من صول كيت، نشرت صحيفة اطلاعات، المحافظة، افتتاحية دعت فيها إلى الفصل بين الذكور والإناث. لا مدارس أو جامعات مختلطة بعد اليوم. طالبت بضرورة ارتداء النساء للتشادور. أوردت شعار الإسلاميين: "يا رو سري يا تو سري" (إما حجاب على الرأس أو ضربة على الرأس). في اليوم التالي قال التلفزيون الإيراني إن الاحتفال بيوم النساء هو مؤامرة امبريالية معادية للإسلام. أقام الحزب الشيوعي الإيراني "توده"، احتفالاً بالمناسبة، لكنه استنكف عن دعوة كيت ميليت والناشطات الغربيات الأخريات إليه. انسحب الإتحاد النسائي الإيراني احتجاجاً. حزب "كوملة" الكردي أقام احتفالاً للنساء في المدن الكردية. شاركت النساء في المسيرات المطالبة برفع القيود عن النساء في كل المدن الكردية. وسرعان ما جرى حظر الحزب الشيوعي واعتقال قياداته، وعلى رأسهم الزعيم التاريخي نورالدين كيانوري، وإعدامهم لاحقاً، وسحقت الحركة القومية الكردية وجرت إعدامات ميدانية في مدن مهاباد وسنندج وسقز.

بدأت الصور العملاقة للخميني تغزو الجدران وظهرت كالفطر الشعارات الرهيبة الداعية إلى سحق كل الأعداء: "الموت لأمريكا، الموت للشيوعيين، الموت لإسرائيل، الموت لأعداء الثورة، الموت لأعداء الإسلام". لكن الحركة النسائية استمرت. انطلقت مظاهرات شملت كل الميادين: طالبات الجامعة، النساء الممرضات، الطبيبات، القاضيات، الشرطيات، مضيفات الطيران، المعلمات. سارت المظاهرات إلى ساحة فردوسي ثم إلى وزارة الخارجية، هناك ألقت كيت ميليت كلمة طالبت فيها بتحرير النساء ورفع القيود عنهن.


(كيت ميليت في تظاهرات طهران1979 مع مسجلتها)

عقد نائب رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية، عباس أمير انتظام، مؤتمراً صحافياً أعلن فيه طرد الناشطات الغربيات، كيت ميليت وصوفي كير ورفيقاتهما. بالفعل تم طردهن في 18 آذار 1979. غادرت كيت طهران محملة بعشرات، بل مئات، الأشرطة التي سجلت فيها لقاءاتها ومشاهداتها. تحدثت بدهشة وإعجاب عن النساء اللواتي "كن قاومن الشاه وخاطرن بحياتهن في فعل ذلك وحين جاء الخميني وأتباعه طلبوا منهن العودة إلى المطبخ والاهتمام بأزواجهن وأولادهن". رفع الإسلاميون شعار "نه شرقي، نه غربي، جمهوري اسلامي"، فرفعت الحركة النسائية شعار "آزاي نه شرقيست، نه غربيست، جيهانسيت" (الحرية ليست شرقية ولا غربية بل هي عالمية).

كانت كلمة "آزادي" تتردد على ألسنة ملايين النساء في طول إيران وعرضها وكانت كيت ميليت تحمل آلة التسجيل وتدوّن كل شيء، كل صوت. بعد وصولها، أصدر آية الله الخميني، زعيم الثورة، فتوى يقضي بضرورة قيام النساء اللواتي يعملن في الدوائر الرسمية بارتداء "التشادور". قبل ذلك بثلاثة أيام كانت الحكومة الانتقالية برئاسة مهدي بازركان أكدت أن النساء لا يصلحن لشغل مناصب في سلك القضاء لأنهن "سريعات الانفعال". وبعد الدعوات للنساء للمشاركة مع الرجال في الانتفاض ضد حكم الشاه، راحت تتبلور أكثر فأكثر ميول الفصل بين الرجال والنساء في الفضاء العام وبين الطلاب والطالبات في المدارس والجامعات. بل إن الحكومة المؤقتة اعتبرت المدارس المختلطة شراً يجب التخلص منه. قالت أن المدارس المختلطة تتحول إلى "مراكز بغاء"، وأصدرت أخيراً مرسوماً بالفصل بين الجنسين.


(الشبان الإيرانيون يحمون تظاهرة النساء في طهران 1979)

كان الشاه قام بإصلاحات جذرية في مجالات كثيرة، بما في ذلك ما يتعلق بوضع النساء. كان يحلم بأن يحقق ثورة تمدينية شاملة أو ما سمّاه "تمدن بزرك" - التمدن الكبير. أول إتحاد نسائي في إيران تأسس العام 1966 وكانت له فروع في كل المدن. بعد عودة الخميني من المنفى وبدء التضييق على النساء، شرعت الحركة النسائية في رص صفوفها والاستعداد للنزول إلى الشارع من جديد.

أول كلمة سمعتها وتعلمتها ميليت كانت "آزادي". وهي الكلمة التي ترددت في 8مارس، يوم المرأة العالمي. هذه الكلمة، الشعار، الأمل، الحلم، الرمز، الأيقونة، كانت الصرخة الأكثر عاطفية، كانت محملة بالمعاني والمشاعر والأحاسيس والرغبات. كانت المظاهرات تنطلق من جامعة طهران وتتوجه إلى ميدان آزادي، ساحة الحرية التي أصبحت ملتقى كل المظاهرات اللاحقة. "لست بارعة في الهتافات"، قالت ميليت في كتابها "الذهاب إلى إيران" الذي كتبته بعد عودتها من طهران، "لكني اليوم مأخوذة بهذه الدفقات الهادرة التي تندف آزادي من حناجر النساء مثل السنونو في يوم ربيعي".

لم يكن شعار الحرية مطلباً من المطالب. كان مضمون النشاط كله، مغزى العيش، حلم الجميع. صرخت النساء: "انقلاب نكرديم تا به عقب بركرديم" (لم نقم بالثورة كي نرجع إلى الوراء)، وقلن: "آزادي بايد نبايد ندارد" (ليس ثمة يجب أو لا يجب في الحرية). لم تنهض النساء للثورة على الشاه كي يقعن تحت ظلم الثورة الجديدة. كي يُدفع بهن إلى المطبخ ويحبسن في التشادور والحرام.

حين طُردت ميليت، أصدرت سيمون دو بوفوار بياناً في 19مارس في باريس: "تضامني الكامل مع كيت ميليت وكل الرفيقات الموجودات الآن في طهران. أشاطر آراء كيت ميليت ورغباتها. لتكن الثورة صوت النساء، نصف الجنس البشري. النظام الجديد أيضاً سيصبح طاغياً إن أهمل رغبات النساء ووضع جانباً مطالبهن". وكان التلفزيون الرسمي للحكم الجديد وحكومة الخميني يتجاهلان مظاهرات النساء في اليوم العالمي للمرأة.

في 13 سبتمبر/أيلول2022، جاءت مهسا أميني برفقة شقيقها كياروش أميني إلى طهران قادمة من بلدة سقز في محافظة كردستان الإيرانية. لم تكد تنزل من الباص حتى لاحقتها دورية شرطة الأخلاق  بسبب "حجاب بد" (الحجاب السيء)، أي أنها لم تكن ترتدي الحجاب بالشكل المناسب. أخذوها للتحقيق، لكنها لم تعد أبداً. ماتت. كأن التاريخ يعيد ذاته: المدن الكردية تنتفض، سنندج ومهاباد وبوكان وكرمانشاه و…سقز، المدينة التي ولدت فيها مهسا أميني. النساء، كلهن، يرمين الحجاب عن رؤوسهن، يكوّمن أغطية الرؤوس ويشعلن فيها النار. يرفعن القبضات نحو الشمس ويرقصن أمام النار.

منذ ذلك اليوم وحتى الآن لم تتوقف التحركات النسوية، وغير النسوية، في إيران. عادت كلمة "آزادي" تنطلق من الحناجر. الشعار الذي رفعته النساء في مدينة سقز أول الأمر باللغة الكردية: "آزادي، جين، جيان"، طار إلى كل المدن الإيرانية وأصبح بالفارسية: آزادي، زن، زنكي. ثم حلّق في سماء العالم. تحرر المرأة هو تحرير للحياة.

كيت ميليت توفيت في 6سبتمبر/ أيلول2017 (الشهر الذي ماتت فيه مهسا أميني). وبالطبع سيمون دو بوفوار رحلت منذ زمن طويل. الناشطات النسويات في الغرب منشغلات بأمور أخرى. لا عزاء للنساء في إيران.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها