الجمعة 2018/04/06

آخر تحديث: 12:09 (بيروت)

الثور النينويّ المجنّح في لندن.. لرثاء التمر

الجمعة 2018/04/06
الثور النينويّ المجنّح في لندن.. لرثاء التمر
بنى راكويتز تمثاله المجنح بأكثر من 10 آلاف عبوة من معلبات شراب التمر العراقي
increase حجم الخط decrease
في الركن الشمالي الغربي من ميدان الطرف الأغر، وعلى مرأي من "عمود نيلسون" الشهير، تنتصب القاعدة الحجرية الرابعة، والتي وإن أقيمت في العام 1841، لتحمل تمثال وليام الرابع، إلا أنها أضحت بدلا من هذا كشاهد على قلق عدم الاكتمال. فلمدة 150 عاما، ظلت القاعدة خالية، فالمخطط الأصلي لم يكتب له أن يكتمل نظرا لعدم توفر التمويل اللازم. ومنذ العام 1999، تحولت القاعدة منصة لأعمال فنية مؤقتة، لا تكتفي في دورية إحلالها وتغييرها الدائم بزعزعة فكرة التخليد التي تهدف إليها الأنصاب التذكارية، بل أيضاً تعرّف علاقة الفن بالفضاء العام، وتخطيطه، وسياسات الدولة حيالة، والتمويل الرسمي وعلاقات السلطة الرمزية. بين عامي 2015- 2017، على سبيل المثال، وضع عليها تمثال طوله 5 أمتار، لديك أزرق اللون، للفنانة كاترينا فريتش. ومع أن الديك كان رمزا "لليقظة، والتجدد، والقوة"، كما وصفته، فريتش، إلا أن العمل لم يكن سوى نكتة لغوية بذيئة، فـ"الديك الضخم" بالإنكليزية، تجوز قراءته "العضو الذكري الضخم". والإشارة المتضمنة هنا، إلى "عمود نيلسون" الذي يتوسط الميدان، بوصفه إسقاطاً ذكورياً للقوة الإمبريالية، ليست عصية على الالتقاط. هكذا تضعنا فريتش وديكها، في مواجهة "الانتصاب" الذكري المعلن أو المتضمن في كل "نصب" عام، وتسخر من خيلائه "الديكي". 

هذه المرة، ينتصب على القاعدة الرابعة، حيوان آخر، نصف إنسان ونصف إله. ففي الأسبوع الماضي، رفع الستار عن نسخة بالحجم الطبيعي للثور المجنح الآشوري، "لاماسو"، الذي دمره "داعش" على مشارف الموصل العام 2015. لكن، وإن كان المحرر الفني في "التايمز" قد عنون تقرير الجريدة عن التمثال بأنه "تحدٍ لداعش"، إلا أنه ربما أخطأ في تبين ما يتحداه "لاماسو" هنا. فالتمثال الذي أضاف له الفنان الأميركي المنحدر من أسرة يهودية عراقية، مايكل راكويتز، جملة "لا يجب للعدو الخفي أن يكون موجوداً"، يطرح أسئلة عن العداء وصناعته. فـ"لاماسو" الذي "يحرس" بوابات نينوى منذ العام 700 قبل الميلاد، كان لقرون في انتظار عدو وهمي لم يصل أبداً، وحين وصل البرابرة، لم يصمد هو نفسه أمام معاولهم. فمن يحرس الحراس؟ ومن يحمينا منهم أيضاً؟

بنى راكويتز تمثاله المجنح بأكثر من عشرة الآف عبوة صفيح فارغة من معلبات شراب التمر العراقي. وفي أحد أركان الميدان، وضع راكويتز كشكاً متنقلاً لبيع وصفات الطبخ العراقية، التي تحتوي شراب التمر كأحد مكوناتها. لا يصعب تصور علاقة هنا، بين المعلبات وبين أعمال رائد "البوب آرت" آندي وارهول. فحين استخدم وارهول معلبات حساء الطماطم، لأول مرة كموضوع للعرض الفني، كان قد انهال بالضربة الأخيرة، لتحطيم هالة القداسة المدعاة من حول الفنون العليا، ليهبط بها إلى اليومي، والجماهيري، والمبتذل، والفج. مع ثَور لندن المجنح، يسعى راكويتز إلى وضع الرثاء في محله أيضاً، محولاً الأنظار عن القيمة التاريخية للآثار، إلى التخريب الذي نال حياة البشر أنفسهم ومجتمعاتهم. فصناعة التمر التي كانت واحدة من أكبر الأنشطة الاقتصادية التصديرية في العراق، وهو المجال الذي عملت فيه عائلة راكويتز حتى بعد مغادرتها للعراق في الأربعينات، انهارت تماماً بعد الاحتلال الأميركي- البريطاني، وحربه الدموية التي دمرت الملايين من أشجار النخيل.

ما الأجدر بالرثاء، التراث أم حيوات البشر؟ الماضي أم اليومي؟ الثقافة العليا أم وصفات الطبخ؟ وأين تكون أولوية الحماية بين كل هذا؟ يناكف هنا راكويتز، دور النصب العام أيضاً كسابقيه. فأيهم يستحق التخليد، الأثر الذي يرمز إلى القوة والذكورة المجنحة؟ أم مذاق العراق الذي تقطعت سُبُلُه براكويتز وملايين العراقيين المهجرين والمشردين، لكنهم مازالوا يحملون ذاكرته في مطابخهم وعلى موائدهم؟ تلك الذاكرة الحميمة التي لا يمكن  للتماثيل "العريقة" أن تحمل هالتها، بقدر ما توجد ببساطة في علبة صفيحية لشراب التمر، تصلهم في مهاجرهم، ومهما ابتعدوا من الوطن.

ينصب راكويتز في وسط لندن، رثاء طويلاً لتمر العراق، يقف حارسه المجنح أمامه، بلا وعد للخلود، ففي العام 2020 سيتم استبداله أيضاً.. ككل شيء آخر. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها