الأربعاء 2018/04/18

آخر تحديث: 12:01 (بيروت)

معنى الثقافة في زمن التكنولوجيا الجديدة

الأربعاء 2018/04/18
معنى الثقافة في زمن التكنولوجيا الجديدة
من أعمال كاندنسكي
increase حجم الخط decrease

بعض الملاحظات حول معنى الثقافة في زمن التكنولوجيّات الجديدة وهيمنة رأس المال(*):

منذ قديم الأزمنة نظر الإنسان إلى السماء. لقد جرى غزو الفضاء في مخيّلة الشعراء والأدباء والرؤيويّين قبل وقت طويل من حدوثه عملياً وتقنياً. منذ العصور القديمة حتّى عصر النهضة الإيطالية. من إيكار في الأسطورة اليونانيّة إلى سماء دانتي في «الكوميديا الإلهيّة»، ومن رؤيا يوحنّا إلى الرؤيويين الألمان، ومن «الإسراء والمعراج» إلى إبن عربي وعمر الخيّام، كان اختراق السّماء عبر الأسطورة والدّين والشعر محاولة لاختراق الأسرار الكبرى. الشاعرة الإغريقية سافو التي عاشت في القرن السابع قبل الميلاد قالت عبارتها الرائعة: «لو أستطيع أن ألمسَ السّماء بذراعَيّ». وكم تلحظ هذه العبارة الحاجة إلى الاتّساع وتجاوز الشرط الإنساني المحدود، في الزمان والمكان.

إلا أنّ شكل التعبير عن اختراق السماء هذا، تبدّل بين عصر وآخر وذلك وفقاً للمعطيات المعرفيّة المتعلّقة بالسّماء في كلّ الأزمنة، وصولاً إلى يومنا هذا بعدما أصبحت أسئلة الكون مهمّةَ الفيزيائيين وعلماء الفلك أكثر منها مهمّة الشعراء. هكذا فتحت الثورة العلميّة والمعرفيّة آفاقاً لم تكن معروفة من قبل، وأخذ التعبير عنها أشكالاً جديدة.

الشاعر رامبو تحدّث، في قصيدته «أحرف صوتيّة»، عن ألوان الحروف. الآلة تُظهر لنا اليوم شكل هذه الحروف وشكل الذبذبات الصوتية. تجعلنا نرى ولادة النجوم وموتَها. تُدخلنا إلى طبيعة الخلايا والجينات، وتعرف ما في الأرحام...

نحن نعيش إذاً في عالم متغيِّر ومعه يتغيَّر المعنى الثقافي. فكيف نكتب الشعر والنثر، كيف نرسم وننحت ونفكّر، من دون الالتفات إلى الأثر الذي تركته إنجازات الثورة العلميّة؟ لا أتوقّف هنا عند كيفيّة استعمال هذه الإنجازات، وتوظيفها في الحرب أو في السلم، بل أشير إلى حضورها في الإبداع، وإلى قدرتها على الكشف وعلى منافسة الحدس وتجسيد بعض الرؤى.

منذ القرن التاسع عشر، أدرك عدد من الشعراء والكتّاب والفنانين أبعاد التحدّي التقني ومعنى هذا التحوُّل، ولا نزال نسمع صدى هتاف والت ويتمان: «أنا شاعر القاطرة». وهذا ما أدركه أيضاً، في وقت لاحق، بعض شعراء المهجر وفي طليعتهم جبران خليل جبران. (تقتضي الإشارة السريعة، هنا، إلى أنّ جبران وعى أثر التكنولوجيا لكنه لم ينتبه إلى التحوّلات الإبداعيّة المواكبة لها، خصوصاً في مجالات الفنون التشكيلية والهندسة التي كانت مدينة نيويورك مسرحاً لها في العشرينيات من القرن الماضي).

انتشرت الثورة التقنية في الثقافة وأبدعت وسائط تعبيرها الفنّي معها: ولادة الصورة والسينما والمذياع والتلفزيون والإنترنت. الصورة الفوتوغرافية والسينما هما في مقدّمة الفنون التي تَدين بوجودها للتكنولوجيات الجديدة. مع هذه الوسائط، بدأ الانتقال التدريجي من التعبير عبر النصّ، وهو، تاريخياً، النصّ الشعري، إلى مجال الصورة. ومع الصورة، وبالأخصّ تلك التي جسّدتها الشاشة الصغيرة، انطلق ما بات يُعرَف بِـ«ثقافة الجماهير».

إنّ ابتكار آلة التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر ترك أثره على الفنانين التشكيليين في علاقتهم مع الواقع ومع اللوحة نفسها. وقبل ذلك، ألم يكن ابتكار الصورة الفوتوغرافية وليد الثورة الصناعية التي سمحت بتطوير التقنيات واعتمدت على «الأوبتيك» (البصريّات) والكيمياء والكهرباء والإلكترون والمعلوماتية. لقد تمّ ذِكر التصوُّر الأوّلي لهذا الابتكار مع أرسطو، ولاحقاً مع ابن الهيثم في القرن العاشر، لكن الابتكار الفعلي بدأ مع الصورة الأولى التي التقطها جوزيف نيسيفور نيابس عام 1826. وطوّر هذا الابتكار لوي جاك ماندي داغير.

ثمّ جاء فيليكس نادار وإتيان كارجا اللذان تركا لنا صوراً تمثّل بعض الوجوه البارزة في القرن التاسع عشر ومنها بودلير، رامبو، هوغو، سارة برنار، كما تعاملا مع الصورة الفوتوغرافية بصفتها فناً قائماً بذاته. هذا الفنّ الذي يتطوّر تقنياً باستمرار أصبح له اليوم معارضه ومتاحفه ومختبراته في مختلف أنحاء العالم.

من الصورة الفوتوغرافية إلى السينما التي تخضع للتطوّر التقني نفسه، ولقد قطعت شوطاً كبيراً منذ ابتكارها مع الأخوين لوميير في فرنسا حتى آخر إرهاصاتها وصولاً إلى تحقيق الصورة الثلاثية الأبعاد مع عدد من المخرجين السينمائيين ومنهم دجايمس كامرون في فيلمه «أفاتار»، وكان إنغمار برغمان قد استعمل الكاميرا الرقميّة لتصوير فيلم «ساراباند» الذي هو آخر أفلامه.

في مجال الفنون التشكيلية أيضاً، لم يعد غريباً أن ترى، داخل المعارض و«البينالي» ومتاحف الفنّ الحديث، مساحات كاملة مخصصة لتجهيزات فنية تحضر فيها وسائط جديدة، وخصوصاً الفيديو. تطالعنا هذه الوسائط كذلك على خشبة المسرح. من الفنون التشكيلية والمشهدية إلى صناعة الكتاب، يشهد هذا القطاع تحوّلاً كبيراً مع نزول الكتاب الرقمي إلى المكتبات، وكذلك، وبالأخصّ، مع المكتبات الرقمية الضخمة. الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس كان قد تحدّث في قصة بعنوان «مكتبة بابل»، عن مكتبة لانهائيّة شبيهة بـِ «ألف ليلة وليلة». منذ سنوات، أطلقت اليونسكو المكتبة الرقمية العالمية بالاتفاق مع مكتبة «الكونغرس» الأميركية التي كانت وراء فكرة هذا المشروع. هكذا التحقت «المكتبة الرقمية العالمية» بمكتبتَين رقميّتَين هما «مكتبة غوغل»، و«أوروبيانا». وأصبحت ملايين الكتب، بلغات مختلفة، في متناول القرّاء بصورة مجّانية. هذا بالإضافة إلى مخطوطات وصوَر ووثائق وخرائط وتسجيلات وأفلام متنوّعة...

المكتبة الكونيّة التي حلم بها بورخس، بالأمس القريب، آخذة في التحقُّق اليوم.
في موازاة ذلك كلّه، أدّى تحالف التكنولوجيا والاقتصاد إلى تغيير العلاقة بالثقافة. فالدورة الاقتصادية الآن تلقي بظلال كبيرة على التربية والتعليم، ومن خلالهما على التوجّهات الجديدة التي تعمل على تهميش الجماليات والمعارف الإنسانية. إنها المرة الأولى التي يجتاح فيها، وبهذه الطريقة الحاسمة، رأسُ المال الثقافةَ ويُحكم قبضته عليها ويخضعها لشروطه ومعاييره. أفاد هذا النَّسَق الجديد إلى أقصى حدّ من تكنولوجيا الاتصال والإعلام، وفي مقدّمها التلفزيون الذي قام في العقود الأخيرة بدور أساسي في تهميش الثقافة الجادّة وتكريس الابتذال.

يعمل التلفزيون، كما هو معروف، على تبسيط كلّ شيء، وتسطيحه إلى الحدود الدنيا، وكذلك على تقديم برامج ومسلسلات تكون في متناول الجميع، أي تنطلق من معلومات معروفة سلفاً، ولا تعارض أبداً الذهنيات السائدة بل تجاريها وتتماهى معها. مع التلفزيون يعود العالم الشفهيّ لغةً أساسيّة بعد أن أمضت البشريّة ملايين السنوات لتنتقل إلى الكتابة...

لقد لاحظ عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيار بورديو أنّ النتاجات الثقافية التي اعتُبرت، تاريخياً، من بين النتاجات الأسمى للإنسانية، كالفكر والشعر والفلسفة، تمّ إنتاجها خارج معادلة الكمّ والمنطق التجاري، بخلاف ما هي الحال اليوم، وهذا ما يعمل، أكثر فأكثر، على عزلها وتهميشها. فالشروط الاقتصادية والاجتماعية التي تنمو ضمنها الثقافة الآن هي التي تحدّد شروط اللعبة الثقافية وتتحكّم بحياتها وموتها، ممّا يضع علامة استفهام كبيرة على مصير الثقافة النّوعيّة، الرائدة والمستقلّة.

(*) مدونة كتبها الشاعر اللبناني المقيم في باريس عيسى مخلوف في صفحته الفايسبوكية
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها