الخميس 2018/02/15

آخر تحديث: 13:46 (بيروت)

"بدمافاتي": بوليوود في أبهى قبحها

الخميس 2018/02/15
increase حجم الخط decrease
في الطريق إلى السينما، أخبرني صديقي اليوناني، بأنها المرة الأولى التي سيشاهد فيها فيلماً هندياً. وكانت هذه فرصتي مناسبة لأستعيد تاريخاً شخصياً طويلاً مع السينما الهندية، وأنا أخبره عن سينما "شبرا بلاس" التي كانت لوقت طويل متخصصة في أفلامها. وكذا عن الطقس التلفزيوني لأفلام العيد الهندية، والتي وإن كنا قد حفظنا مشاهدها، عن ظهر قلب من فرط تكرارها، لكن ظلت تبكي أمي كل عام. وفي حماس، ربما له علاقة بالنوستالجيا فقط، سردت عليه موجزاً لفيلمي المفضل، "قمر، أكبر، أنتوني"، وفحوى رسالته، عن أخوية الهندوسي والمسلم والمسيحي، واستخدمته للتدليل على الدور الذي لعبته بوليوود في صياغة إيديولوجيا القومية الهندية أعلى الأقل ترسيخها. 

وبمجرد وصولنا إلى قاعة السينما، الواقعة في شرق لندن، بدا الأمر وكأننا انتقلنا إلى مكان آخر. فالسينما المخصصة لأفلام بوليوود كانت ممتلئة على آخرها بعائلات بريطانية تعود أصولها لشبة القارة الهندية، ارتدى الكثير من أفرادها الملابس التقليدية، الأرجح خصيصاً من أجل المناسبة، فيما فاحت من القاعة روائح العود والورد.
 

وحينها نبهت صديقي، أنه وبالرغم من تلك الطقسية التي تجلبها معها بوليوود إلى جاليات المهجر، فإن أفلامها قد تأمركت بدرجة كبيرة، فلم تعد أحداث أفلامها تدور في القرى، ولا أبطالها من الشيالين والصعاليك كما في الماضي. كانت إعلانات الأفلام التي عرضت قبل الفيلم، أكثر أميركية مما ظننت. فثمة فيلم عن البطولات الحربية للجيش الهندي في حروبه مع باكستان، والثاني كان عن عميل سري هندي يتتبع منظمة إرهابية جهادية في لندن، والأخير عن قصة حب مزدوجة تدور كل أحداثها حول حمامات السباحة، وفيلات الطبقة العليا.

بدأ الفيلم بسلسلة طويلة من التنويهات، أولاً بأنه لا يحرض على ارتكاب "الساتي" (طقس حرق الأرملة لنفسها)، وبعده تنويه بأن الفيلم هو معالجة فنية لنص أدبي ولا يدعي أي دقة تاريخية، وأخيراً ظهرت تنويهات بأن الفيلم لا يبتغي الإساءة إلى أي طائفة، أو دين، أو عرق، أو طبقة، مع سلسلة طويلة أخرى من كل التصنيفات الاجتماعية الممكنة.

لم تبدُ التنويهات مفاجئة، ففيلم "بدمافاتي" Padmavati، كان قد اثار الكثير من أعمال الشغب، وتخريباً مواقع التصوير، مع تهديدات بالقتل لبطلة الفيلم ومخرجه، بسبب ما رآه بعضهم تزييفاً لتاريخ طبقة محاربي "الراجبوت" الهندوسية. وبالرغم من أن تلك الاضطرابات قادت إلى منع الفيلم في خمس ولايات هندية، وتأجيله أكثر من مرة، فإن الرقابة أجازت عرضه بعد إدخال خمسة تعديلات رئيسية، منها تضمين تلك التنويهات.

إلا أن الفيلم المستلهم، من قصيدة ملحمية من القرن السادس عشر، للشاعر الصوفي مليك محمد جائسي، لا يبدو قد وفى بوعود تنويهاته تلك. فهوس علاء الدين الخلجي، سلطان دلهي المسلم، بالملكة بدمافات، ومحاولة انتزاعها من زوجها راتان سنغ، الحاكم الهندوسي لمملكة سينغهال البعيدة، لم تكن في الفيلم مجرد ملحمة عن الوفاء والتضحية. بل كانت مواجهة بين النقي والملوث، الهندوسي والمسلم الدخيل. يظهر علاء الدين، ثاني السلاطين الخلجيين والملقب بالإسكندر الثاني، كتكثيف لكل قيم الشر والقسوة والدناءة. فيما يظهر الملك الهندوسي، في المقابل، كتمثيل لالتزامه بكل قيم محاربي "الراجبوت" النقية. يأكل علاء الدين بكل شراهة لحماً نيئاً، فيما ينغمس مع عبده في علاقة مثلية، تُصوّر بشكل مقزز، ويظهر جنوده المتحدرون من أفغانستان، بوجوه قبيحة، وبشرة داكنة، وملابس قاتمة الألوان. وفي المقابل، فغن جنود راتان سنغ، يبدون أكثر وسامة، وبشرتهم أفتح بالطبع، وملابسهم زاهية الألوان.

يفتقد الفيلم للدقة التاريخية بالكامل. فغير أن علاء الدين، وهو شخصية تاريخية حقيقة، لم يكن بربرياً على الإطلاق، فهو من أدخل تقاليد البلاط الفارسي الإدارية والتنظيمية إلى الهند، وصد الخطر المغولي عنها إلى حين. أما جنوده الأفغان فغالباً كانوا أفتح بشرة من سكان ممالك الراجبوت الأميرية. لكن الأمر لا يتعلق بالحقائق التاريخية هنا، بقدر ما تعنيه كل تلك التفاصيل، من استلهام صور هوليوودية استشراقيه عن المسلم، لا تكتفى بوصمه بالهمجية واللا-أخلاقية، بل يلعب لون البشرة دوراً في تحديد مرتبة أصحابها في سلم الحضارة. يذهب الأمر إلى حد غير مسبوق من المبالغة، لدرجة أن الممثل الذي أدى دورعلاء الدين، صرح للإعلام بأنه أضطر للخضوع لعلاج نفسي بعد تأديته للدور، فقد أصابته شخصية صاحبه الأصلية باضطراب نفسي. 


يظل الفيلم، وهو أعلى موزانة لإنتاج ناطق بالهندية، تجربة بصرية مبهرة. فمع بهرجتها المبالغ فيها أحياناً، تحتفظ صورة الفيلم بجمال استثنائي في كل تفاصيلها. لكن ذلك الجمال الذي ينقسم العالم حول خطوطه، بين هندوس أبرار ومسلمين ملوثين، يقود إلى نهاية مفجعة. فالملكة بدمافاتي، وعندما تجد نفسها على وشك الوقوع في يد علاء الدين، بعد مقتل زوجها، تقوم هي وكل نساء القصر، بارتكاب "الجوهار"، أي الانتحار الجماعي للنساء بحرق أنفسهن. تمر الكاميرا على وجوه عشرات من النساء، بعضهن حوامل، وبنات صغيرات، وعجائز، فيما يعيد نص الحوار، بإصرار، فكرة المرأة كتجسيد لشرف الأمة، وتمجيد التضحية بنفسها في سبيلها.

وبين خطابات الذكورية والعداء للمسلمين ورهاب المثلية، التي يزخر بها الفيلم، تبدو مسيرة السينما الهندية عبر محطتي "قمر، أكبر، أنطوني" و"بدمافاتي"، انعكاساً لتحول في الخطاب السياسي الهندي من مرحلة حزب المؤتمر، إلى عهد مودي وبهاراتيا جاناتا، ولموجة الميل الشعبوي نحو اليمين عالمياً، والتي يبدو أن قطاعاً رئيسياً من صناعة السينما الهندية قد تماهى معها بالكامل. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها