الخميس 2018/01/18

آخر تحديث: 15:30 (بيروت)

الصفعة التي تحتاجها"أنا أيضاً"

الخميس 2018/01/18
الصفعة التي تحتاجها"أنا أيضاً"
لوحة "تيريز تحلم" (1938) لبالتوس، والتي طالبت ناشطتان نسويتان متحف "متروبوليتان" في نيويورك بإزالتها
increase حجم الخط decrease
ما زال كل ما يُكتب ضمن هاشتاغ #metoo والهاشتاغات المتفرعة منه، يحظى بانتشار مذهل وزخم لم ينضب، حتى مع مرور شهور على انطلاقة الحملة، بل إن المدّ يزداد قوة. ورغم التفاعل المتصاعد والمستمر حتى اللحظة مع الحملة العالمية، إن كان في فضاءات السوشال ميديا، أو على أرض الواقع في مؤسسات فنية وتجارية وأكاديمية أميركية وأوروبية، فقد بدأ صوت التململ من الموجة يعلو ويكتسب منابر. والكلام هنا لا ينحصر في البيان الذي نشرته صحيفة "لوموند" الفرنسية، قبل أيام، ممهوراً بتوقيع 100 سيدة فرنسية، بينهن ممثلات وأديبات وكاتبات وصحافيات وطبيبات، وأشهرهن جماهيرياً الممثلة كاترين دونوف. فالتململ، بأشكال ودرجات مختلفة، يلقى أصداءه بين النخب وفي الشارع. صحيح أنه لم يتحول، حتى الآن، إلى موجة توازي "أنا أيضاً" حجماً وتأثيراً، إلا أن النقاش نشب فعلاً، وثقب – بالتأكيد – جدار التهيب النقدي لثقافة "الصواب السياسي" حين تصبح شُرطةً اعتبارية لـ"اصطياد الساحرات".. علماً أن التعبير الأخير ظهر في أكثر من مقالة رأي وتحليل في عدد من وسائل الإعلام الغربية الرصينة. 

استيلاء الغضب على حركة فضح وبوح، فقرّبها، مرات، إلى التشهير المجاني، بدلاً من تحريك المحاسبة العادلة وتفعيلها. هذا ما بات يأخذه كثيرون وكثيرات على "أنا أيضاً". وبَعد: اتهامات عشوائية، أحياناً تكون محقّة وواضحة فتستوجب التحرك. لكنها، في أحيان كثيرة، تكون ضبابية وبلا اثباتات، ومع ذلك باتت تنهي الحياة العامة أو المهنية للكثير من الرجال، إذ تنحو مواقع القرار المؤسساتي إلى مراعاة التيار السائد لتدرأ عنها سهام الحملة، وفي الوقت نفسه، لتظهر بمظهر عصري مناصر للنساء والنسويات، وهو، على ما يبدو، منطق تسويقي رائج ومُجدٍ. وتكمل المآخذ: استعادة صورة من الزمن الفيكتوري للنساء باعتبارهن ضحايا ومشاريع ضحايا بالمطلق، لا بد من حمايتهن والذود عن هشاشتهن، وذلك من دون الإضاءة على قوتهن القانونية والاجتماعية والثقافية وما مكّنتهن به حركاتهن التحررية التاريخية من قدرة على الرفض والمقاومة والمبادرة إلى حماية الذات. تشبيه حركة "أنا أيضاً" بما تفعله، أو كانت تفعله، السلطات الدينية، من محاولات منع وترهيب، ثقافي واجتماعي، لدى "المسّ بالمقدسات"، بات مجاهراً به أيضاً. إضافة إلى التركيز على فكرة "استعادة الجانب الأخلاقي" للجنس وتعبيراته، واستبدال المعيار "اليهو-مسيحي" (ناهيك عن الإسلامي، فالمجتمعات العربية والإسلامية نقاش آخر)، بإجماع معنوي ومقونن. حتى نصل إلى التخوف من الآتي: هل نحاكم الناس، غداً، على مضامين خيالاتهم الجنسية وفانتازماتهم؟... هذه مشاعر وتحليلات وتساؤلات تُعلن بجدية، وتحرك الجدل في شأن كيفية التعامل مع مُمارسي التحرش والاغتصاب و"السلوكيات غير اللائقة"، من دون إغفال الإبهام والتخالط المحيطَين بالتعريفات لكل من هذه التُّهم، وهو اللّبس الذي ربما ساهمت فيه "أنا أيضاً".

لا بد من التذكير بأن المعضلات أعلاه، تكاد كلها تكون ذات خصوصية غربية. إذ تُناقش في ثنايا مجتمعات أرست المساواة الجندرية إلى حد كبير، ويُدار السجال في ظل دول مستتبة وأحكام قوانين ومؤسسات دستورية وتشريعات متقدمة في ما يخص المرأة. والحال، إن ما شهده هاشتاغ "أنا أيضاً" من مساهمات نساء في بلدان العرب والمسلمين، يُرى حتماً في ضوء مختلف تماماً: صرخة في وجوه سلطات عديدة، من الدولة والمشرّع، وصولاً إلى الأب والأخ والزوج والزميل في العمل، مروراً بكهنة الدين وحراس "العادات والتقاليد" التي تعيب الضحية دون الجاني. هاشتاغ "أنا أيضاً"، عربياً وإسلامياً، ما زال هو الهامش، ما زال فِعلاً وخطاباً نضالياً، هدفه البعيد هو تغيير واقع مجحف ومؤلم، في الشارع والبيت ومكان العمل، ومرماه القريب الذي يُرجّح ألا يتقدّم كثيراً، هو التسريب و"فش الخلق". في حين أن الحملة، غربياً، بدأت تتمتع بمخالب المتن والهيمنة الثقافية.

وبعد التأكد من الإضاءة على هذا التفصيل غير البسيط، قد نعود إلى بيان المثقفات الفرنسيات الأخير، والذي لا يمكن لمتلقٍّ متنور تمريره من دون فرز مواقف متباينة إزاء نقاط عديدة فيه، ليس من بينها التأييد الكامل. إلا أن فكرة بعينها في البيان، ترن كالمنبّه، فتستنفر يقظة واجبة حينما تصل "الحميّة النسوية" إلى حرية التعبير والفن بالمطلق، لا سيما في تلك الواحات الغربية المتبقية لنا – نحن أسرى هذا الشرق الخرِب بعلمانييه ومتديّنيه سواءً بسواء – وفي الوقت نفسه، تذكّر بمآلات حركات ضغط افتراضية و"مدنية" عربية ولبنانية.

جاء في البيان: "لا يبدو أن للموجة التطهريّة من حدود. فهناك، تمارس الرقابة على ملصقات للوحات إيغون شيلي (1890-1918) التي تصور عراة. وهنا، تتم الدعوة إلى إزالة لوحة لبالثوس (1908-2001) من متحف (متروبوليتان في نيويورك) بحجة أن إبقاءها يمكن أن يعتبر دفاعاً عن الاعتداء الجنسي على الأطفال. وفي سياق الخلط بين الإنسان وإنتاجه، يُطالَب اليوم بحظر الحفل الذي قررته مؤسسة "سينماتيك فرانسيز" لمسيرة رومان بولانسكي السينمائية، ويؤجل الحفل المكرس لجان كلود بريسو. سيدة أكاديمية تصف فيلم ميكلانجيلو أنطونيوني المعنون "Blow-Up" (1966) بالكاره للمرأة وغير المقبول. في ضوء هذه المراجعات والتنقيحات، ليس جون فورد في فيلم "أسير الصحراء" (1956)، أو حتى نيكولاس بوسين في لوحة "اختطاف السابينيات" (1637)، بمنأى عن اتهامات شبيهة. بعض الناشرين يطالبون بعضنا بجعل شخصيات الذكور في أعمالنا أقل ‘تحيزاً جنسياً’ وبالحديث عن الجنس والحب بطريقة أكثر لياقة أو بجعل ‘الصدمات التي تعانيها الشخصيات النسائية’ أكثر وضوحاً!".

لا مفرّ من أن يفكّر لبنانيون، ههنا، في حملات فريق الممانعة، ومثلها حملات الطوائف وأجهزة السلطة وأركانها ومليشياتها، لمنع نشاطات فنية وكتب وملصقات، وأفلام سينمائية مستقلة أو تجريبية أو محظية بتواقيع أبرز المخرجين العالميين. فهذه أيضاً حملات لا تخاض بالقوة. لا بالسلاح، ولا بالتهديد بالسجن أو التصفية الجسدية، على الأقل ليس بالضرورة وليس بشكل مباشر. بل تنطلق من مواقع التواصل الاجتماعي، وتُحمل على روافع الإعلام التقليدي. تُعلن، ويُحشد لها، وتهيمن وتؤثر، وفي كثير من الأحيان تنجح في تحقيق أهدافها التي تقدمها في هيئة "توصيات" و"تمنيات" و"مناشدات"، خوفاً على "الوعي العام"، من التطبيع مع إسرائيل، أو من تشويه الضمير "المُقاوِم"، أو الوجدان "الإيماني"، أو درءاً لإساءة قد تصيب الأنبياء والقديسين. وهذه أيضاً حملات يحاذر كثيرون التصدي لها، وإلا فلا أسهل من تُهمتي الخيانة والعمالة لإسرائيل، بل والتكفير – وهذه في بلادنا مؤذية وثمنها باهظ.. تماماً كما هي جاهزة تهمة "كراهية النساء" و"الرجعية" و"الذكورية" و"الإجرام"، إضافة إلى خسارة العمل والسمعة، لمَن تستهدفه "أنا أيضاً".

المشترك بين "أنا أيضاً" غرباً، وحملات المنع باسم مقاومة إسرائيل في بلادنا، هو السلطة، وبالتحديد حيازة أدواتها القهرية والعنفية، رمزياً وغير ذلك. المشترك هو القدرة على إنزال العقوبات بـ"المرتكبين"، قبل حيازة آذان السلطات التنفيذية وبعدها. هو الحقّ حين يتغوّل، حين يصبح المتن فيفقد السمع والبصر، ويستقوي بـ"الأخلاقيات" فتمسي مِلك يمينه يلويها كما يشاء، ويصفّيها من كل الحساسيات التي جعلتها في الأصل "أخلاقاً". الصواب حين يعلو، فلا يعود يعلو فوقه شيء، وينزف صوابه، لكن مقارعته حينذاك تمسي مكلفة، مسيجة بأشواك وأفخاخ، وقلّة تنبري لها.

الفرق الوحيد أن "أنا أيضاً"، في أميركا وفرنسا وسائر العالم الفاهم والمُراكم، ستدخل دورة التكرير الثقافي والقانوني والإعلامي، ولو بعد حين، ولن تصمد إلا إذا شذّبت أظافرها وأعادت تدوير خطابها وهضمته جيداً قبل تصديره إلى الحيز العام. وهذه "مصنعية" يصعب المسّ بها في بلاد يُشتم فيها رئيس الجمهورية كما شربة الماء، وتُرسم كاريكاتورات الأنبياء كتسلية وطنية، ولا خيمة دائمة فوق رأس أحد أو فكرة، ولو كانت النسوية، بل بالضبط بعدما حصّل الخطاب النسوي مكانته في أعلى الهرم وتكبّد أصحابه في سبيل ذلك الكثير. الفرق الوحيد أن حراس وعينا الثقافي وضميرنا السياسي ووجداننا الهوياتي الملعون بقضايا خالدة لا تموت ولا تُحلّ، حراس عقولنا ومشاعرنا ومعتقداتنا، نحن المشاهدين اللبنانيين القاصرين والقاصرات دوماً وأبداً عن التفكير لأنفسنا، لن يتركونا هكذا بلا توجيه وحماية، لن يتخلوا عنا، شئنا أم أبَينا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها