الجمعة 2017/08/18

آخر تحديث: 12:48 (بيروت)

الركض داخل الشبكة

الجمعة 2017/08/18
الركض داخل الشبكة
هل لاختزال الذات الفردية، إلى وحدات كمّية قابلة للقياس، أن ينتج عالماًً أفضل؟
increase حجم الخط decrease
قبل أسبوعين، نصحني الطبيب بالانضمام إلى مجموعة محلية للركض، كجزء من برنامج تحفيزي على الإقلاع عن التدخين، وشدد على أن الأمر اختياري. فأنا ملزم، بحسب قواعد خدمة الصحة الوطنية البريطانية، بالحضور إلى العيادة مرتين في الشهر، لقياس نسب أول أكسيد الكربون في الرئة، حتى أتمكن من صرف لاصقات النيكوتين الموصوفة لي من الطبيب، بشكل دوري. لم يكن طبيبي محتاجاً لتفسير الغرض من الكشف الدوري، فمن ناحية تحتاج المؤسسة الطبية للتأكد من إقلاعي فعلاً عن التدخين، حتى لا تهدر تكلفة اللاصقات بلا جدوى، وكذلك فإن جمع البيانات عن محاولات الإقلاع عن التدخين، ومواقيت الانتكاس ومعدلاته، يخدم متابعة مدى كفاءة برامج التحفيز والتدخل الصيدلي وغيرها، وتعديلها إن لزم الأمر. وبالإضافة إلى ذلك، فالخضوع للمتابعة، والمراقبة، يبدو حافزاً إضافياً لمعظم الأفراد للالتزام ببرنامج الإقلاع، وغيرها من الأنشطة التي تتطلب قدراً من الإرادة.

لم يكن هيناً التسجيل في الموقع الإلكتروني للمؤسسة غير الهادفة للربح، التي تشرف على تنظيم مجموعات الركض. فالمؤسسة التي تتلقى تمويلاً من المجلس المحلي، والحكومة المركزية، لتنظيم مجموعات مشابهة في أنحاء المملكة المتحدة، وبهدف إثبات جدوى برامجها للممولين، تحتاج قدراً من البيانات الإحصائية. استغرق تسجيلي نحو نصف ساعة، فكان عليّ إدخال بياناتي الشخصية، وبيانات لها علاقة بصحتي العامة، والأمراض التي أعانيها، والأدوية التي أتناولها، وعاداتي الغذائية والصحية والاجتماعية، والغرض من التحاقي بالمجموعة، والأهداف التي أبغي تحقيقها، وهكذا. لكن الأمر لم يتوقف هنا، فكان عليّ أيضاً، طباعة "باركود" أُرسل لي أوتوماتيكياً بعد نجاح التسجيل، لاستخدامه كبطاقة تعريف عند لقائي بمتطوعي المنظمة المجهزين بماسحات ضوئية لقراءته، وكذلك تحميل تطبيق رقمي على هاتفي النقال، يتصل ببرنامج "غوغل إيرث"، يسمح بتسجيل جولات الركض وبياناتها كل مرة، وربطها بقاعدة بيانات المنظمة، كما يتيح لي الاسترشاد بالمسار الصحيح للركض، ومُددي الزمنية التي حققتها ومقارنتها، بل ويسمح لآخرين بمتابعة جولاتي كنقطة حمراء متحركة في خرائط غوغل، في حالة سماحي لهم بهذا. لكن أمر سماحي من عدمه لم يكن ليعني الكثير. فشروط التسجيل في المنظمة وقواعد استخدام تطبيقها الرقمي، وكذلك "غوغل إيرث"، كلها تنص على حقهم الحصري في مشاركة بياناتي أو بعضها مع طرف ثالث.

كان ركضي، للمرة الأولى، في نهاية الأسبوع الماضي، موفقاً. فالطقس كان مناسباً على غير العادة في لندن، وكانت فرصة سانحة للتعرف على بعض المشاركين، الذين تجاوز عددهم المئتين بقليل. كان ما يطلق عليه الإنكليز، "الكلام الصغير" هو محور الأحاديث منزوعة الفضول، والتي دار بعضها عن الساعات الذكية التي ارتداها البعض. تستطيع الساعة الذكية أن تقيس معدل نبضات القلب، وسرعة الركض ومسافته، وعدد الخطوات في الثانية ومقارنتها بالمسافة المقطوعة، وتتبع مسار الركض في "خرائط غوغل". بينما تستطيع نُسخ أكثر تعقيداً منها، ارتداها عدد أقل، قياس معدلات العمليات الحيوية في الجسم، ونسبة السكر في الدم والضغط وغيرها، وحساب عدد السعرات التي تحويها كل وجبة تم تناولها، ومعدلات حرقها ثانية بثانية، والتنبيه على مرتديها بحاجته للماء أو المزيد من السعرات، وفي أحيان كثيرة ربط كل تلك البيانات بقواعد بيانات شبكية متاحة لمن يسمح لهم صاحبها بالاطلاع عليها.

في كتابه "التكنولوجيات الراديكالية"، يطلق الباحث في مجال التكنولوجيا الرقمية، آدم غرينفيلد، على الشبكة المعقدة من التطبيقات وقواعد البيانات وأجهزة القياس وبرامج التحليل الإحصائي، التي دخلت فيها أثناء رحلتي من عيادة الطبيب إلى مضمار الركض، اسم "تكنولوجيا قياس الذات". لا يشك غرينفيلد في جدوى تلك التكنولوجيات، لكنه يسعى إلى تحليل عمليات تحويل الذات، واختزالها في وحدات كمية قابلة للقياس والتعديل لحظة بلحظة، وعن المؤسسات والأفراد القادرين على استخدام تلك البيانات وطريقه تعاملهم معها. يسخر غرينفيلد من أن ميشال فوكو، بالرغم من أفكاره عن"سلطة العيادة" و"المراقبة الذاتية" و"العناية بالجسد"، و"السلطة البيولوجية"، لم يكن ليتخيل أو يصدق ما يمكن أن تفعله الساعة الذكية في شأن كل أفكاره عن الانضباط الحداثي ووسائله، وربما كان ليعتبرها خيالاً علمياً بالغ في التمسك بنظرياته حرفياً.

تنبع فرادة أطروحة غرينفيلد عن "تشييء" الذات بفعل التكنولوجيا، من معارضتها للأطروحة الذائعة عن دور التكنولوجيا الشبكية في رقمنة الذات والوجود الاجتماعي، وتحويلهما إلى وجود افتراضي. هكذا، وكما يقلب معادلة الذات والتوكنولوجيا على رأسها، فإنه يذهب إلى أن الشبكة، التي يطلق عليها "شبكة الأشياء"، هي ذاتها قد شُيّئت أيضاً. ما يعنيه غرينفيلد هنا، هو البنية المادية لرقمنة المدينة الحديثة، والتي تحتوي طبقات من الشبكات المتراكبة، من كاميرات للمراقبة العامة والخاصة، ومجسات معلقة في الهواء لقياس الأرصاد الجوية، والتلوث، وحركة المرور، والمشاة، وغيرها المدفون تحت الأرض لقياس سريان شبكة المياه والصرف، والغاز والكهرباء وغيرها من المعدات المتصلة بالشبكة، من أول ماكينات الصرف الآلي، حتى آلات القياس الطبية في المستشفيات.

لا ينتهي غرنيفيلد إلى صورة ديستوبية عن مجتمع الضبط والمراقبة، وإن كان يطرح أسئلة عن ضمانة الخصوصية، وعن الإمكانات السلطوية المتضمنة في شبكته "المشيئة" وإمكانية كبحها، وعن طريقة استخدام كل تلك البيانات التي تُجمع عنا لحظة بلحظة، من جهة مؤسسات ذات مصالح تجارية وسياسية بعينها، فالمعرفة تعني سُلطة أيضاً. ويبقى السؤال الأهم لدى غرنيفيلد هو: هل لاختزال الذات الفردية، والعمليات الاجتماعية إلى وحدات كمية قابلة للقياس، أن ينتج عالماً أفضل؟ وإن كان هذا صحيحاً إلى حد ما، فماذا يحدث لما لا يمكن قياسه، أو لا يبدو أن أحداً معنيّ بجمع البيانات عنه؟ 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها