الخميس 2017/07/06

آخر تحديث: 14:20 (بيروت)

عسكر لبنان

الخميس 2017/07/06
عسكر لبنان
من اعتصام في بيروت لأهالي العسكريين المخطوفين من قبل جماعات جهادية عبر الحدود اللبنانية الشرقية مع سوريا (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لطالما تبادلتُ الاستغراب والدهشة مع الأصدقاء السوريين المقيمين في لبنان، في شأن "العلاقة" المركبة مع مُرتدِي البذلة العسكرية، سواء عند حاجز للجيش اللبناني، أو إثر مرور ملالة في الطريق، أو حتى مرورنا سوية أمام ثكنة. البذلة المرقطة، بالمطلق وأياً كانت جنسيتها، سرعان ما تستنهض في الأصدقاء السوريين، لا سيما الذكور منهم، مشاعر متداخلة: خوف غالباً ما يخلو من الاحترام، شكّ، توتّر، وشيء من البغضاء المغلفة بالتوجس. يقولون إنهم يُفاجأون بمناداة اللبنانيين للعسكر "يا وطن".. 

- فماذا تقولون لهم أنتم في سوريا؟
- البعض يمالق فيقول "سيدي"، لكننا، في الغالب، لا نقول شيئاً.. ننتظر ما سيقولونه هم.

وبعد عدد من الحوارات المشابهة، والحفر أعمق للوصول إلى مصادر المشاعر السورية هذه، في مقابل ارتياح اللبناني عموماً لرؤية عناصر الجيش، بدأ الأمر يتضح...

الجيش بالنسبة إلى اللبنانيين، حاملي ندوب الحرب الأهلية، يمثل الدولة –أو الحلم الدائم بها كمضادّ للفوضى. هي المؤسسة الجامعة للطوائف ومختلف الفئات الاجتماعية، وتكاد تكون الوحيدة التي تحظى بإجماع وطني، أياً كان معنى "الإجماع" في بلد مثل لبنان. الجيش، في عيون اللبنانيين بشكل عام، هو الترياق المضاد للأحزاب وزعرانها، للمليشيات، وللسلاح غير المنتمي إلى جهة رسمية، ما يصعّب محاسبة حامله. الجندي، أو حتى الضابط، له مرجعية معروفة، وغالباً ما يلتزم بإجراءات معينة، وحد أدنى من التهذيب، تتيح للمدني توقع نتيجة احتكاكه به، سلباً أم إيجاباً. وفي حال، لسبب ما، لم تجرِ الأمور بسلاسة، فثمة دائماً رتبة أعلى، ومسؤول، ونظام مُدوّن في دفتر ما.. على الأقل، هذا ما يفترضه رجل الشارع. جيشه، أو لنقُل الخطاب المعمّم عن الجيش ومنه، محيّد عن السياسة والطوائف وحزازياتها.

الجيش، في المخيال اللبناني، مرتبط بفكرة "السيادة"، لا سيما من بعد –وخصوصاً خلال- الوصاية السورية المباشرة وانتشار القوات السورية في جزء معتبر من الأراضي اللبنانية. ورغم أن للجيش اللبناني عيده الخاص في ذكرى تأسيسه يوم الأول من آب، فهو نجم الاحتفالات الشعبية والرسمية بِعيد الاستقلال في 22 تشرين الثاني... في حين يحتفل الأميركيون مثلاً بذكرى استقلال الولايات المتحدة (الرابع من تموز) بحفلات الشواء ومباريات البايسبول والألعاب النارية التي يضطلع طاقم البيت الأبيض بتنظيم أضخم عروضها انطلاقاً من الحديقة الرئاسية.

الجيش اللبناني رمز "السلم الأهلي"، بصرف النظر عن سيولة التوصيف في الواقع، إذ عاد موحّداً مع انتهاء الحرب. وهو الذي يشعر كثيرون أنه أسبغ "أخلاقه" على من دُمجوا فيه من مسلّحي الحرب بعد "الطائف"، الأمر الذي يعتبرون أنه لا ينطبق بالكامل على من دُمجوا في مختلف الأجهزة الأمنية. ولا يُنسى أن مؤسسة الجيش اللبناني تشكل أماناً وظيفياً للعديد من الشباب، من مختلف الخلفيات والطبقات والمستويات التعليمية، في قطاعاته المدنية كما العسكرية، خصوصاً بعد إلغاء التجنيد الإجباري. بدءاً من برستيج "ابن الدولة"، وصولاً إلى التقديمات الصحية والاجتماعية. وتالياً، فإن عشرات الآلاف من العائلات لا تبالغ حينما تسمّي عناصر الجيش "أولادنا".

أما السوريون...
تجربة السوريين (واللبنانيين) مع العسكر السوري تكاد تكون على طرف النقيض، منذ تسلّم "حزب البعث" السلطة رسمياً. التجنيد الإجباري رعب، يُبذل في تأجيله والتهرب منه، الغالي والنفيس. الانضواء في الخدمة، تطوعاً أو تجنيداً، مصير من لا حيلة له ولا خيارات بديلة. وليس للمجندين من غير ذوي الدعم والواسطة، سوى الصلاة كي لا يقعوا في غياهب النسيان بعد انتهاء مدة الخدمة. تكرّس الخوف هذا منذ تفاقم الثورة السورية وتحولها إلى حرب تنشر الفوضى. فما عاد يُعرف المليشيوي الموالي من العسكري النظامي، والمجندون الإجباريون يُرسَلون إلى الجبهة بلا تدريب كاف أو عتاد ملائم، وإذا قُتلوا، فلا ديّة أو حقوق مؤكدة لهم، إلا إن انتموا إلى طائفة أو عائلة متنفذة. وفي ذلك – والحق يقال – هم مساوون للمواطن السوري المفتقر إلى مثل هذه الدعامة. الاحتكاك بالعسكر السوري يتزامن مع توقُّع المهانة والإذلال وربما فرض تقديم "الهدايا" مما تيسّر من أكياس الخبز، وعلب السجائر، والأوراق المالية المتوافرة في المحفظة.

الجيش السوري قامع، الجيش السوري مخيف، تهيمن عليه صورة حماة 1982، و"الفروع الأمنية": تعذيب، قتل، ضرب، تسلّط، تبلّي. عقيدته بعثية وولاؤه لـ"الأب الخالد"، تشاركه في ذلك أجيال تربّت في صفوف "طلائع البعث" و"الشبيبة" في المدارس والجامعات والاتحادات والنقابات. والقواسم التربوية المشتركة هذه، ليست بالضرورة عزيزة على قلوب الأطفال والشباب باستثناء، ربما، من انتمى منهم إلى فئات المستفيدين، أو في ما يندرج ضمن "متلازمة ستوكهولم".

***

تطوّر مهم ومقلق وقع قبل يومين، حينما أعلنت قيادة الجيش اللبناني وفاة أربعة معتقلين سوريين، "قبل بدء التحقيق معهم"، وهم من حصيلة الاعتقالات إثر مداهمة مخيم اللاجئين السوريين في عرسال والتي أسقطت أيضاً قتلى وجرحى مدنيين. وإذ تفيد مصادر عديدة بأن عدد المعتقلين "المتوفين" يفوق الأربعة المعلن عنهم رسمياً، فإن التفسير الذي قدمته القيادة ربطاً "بالأحوال المناخية" و"الحالة الصحية" للمعتقلين تسبب، للمرة الأولى ربما، بموجة استنكار عارمة، لم يتم تظهيرها في وسائل الإعلام، لكنها بلا شك اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي واستدعت وعيد بعض السياسيين وقدامى العسكريين، محذرين من أن "الجيش خط أحمر" وأنه سيتم إسكات من "يتطاول عليه". ولعله، والحال هذه، لم يكن مستغرباً انتشار شعار "لا لبعثَنَة لبنان" في الشبكات الاجتماعية، فيما شُنّت في المقابل "حملة تأييد" للجيش، بدت معظم منطلقاتها مرتكزة إلى خطاب فاشي، مُطعَّم برُهاب الغرباء، والعنصرية، والطائفية الفجة، والثأرية القبَلية لـ"شهدائنا"، ناهيك عن تبرّؤها من كل المعايير الحقوقية والقانونية بل والإنسانية.

ولعل اللافت، اليوم، أن عدداً من الأحداث الداخلية السابقة والتي تدخّل/لم يتدخّل فيها الجيش، لم تُفضِ إلى مثل هذا النقاش، ولو على سبيل التأريخ والمراجعة. بدءاً، على سبيل المثال لا الحصر، من انقسام الجيش طائفياً غداة اندلاع الحرب اللبنانية وتورط أفواجه المختلفة في التقاتل الأهلي. مروراً بأحداث 7 آب 2001، عندما شن الجيش وفرع مخابراته حملة اعتقالات طاولت مئات الناشطين والقياديين في "التيار العوني" و"القوات اللبنانية"، والذين تمحور خطابهم ونشاطهم السياسي آنذاك حول مناهضة "الاحتلال السوري للبنان". وصولاً إلى الاجتياح المسلّح الذي نفّذه "حزب الله" وحلفاؤه في بيروت وبعض مناطق جبل لبنان يوم 7 أيار 2008، ووقف خلاله الجيش اللبناني "على الحياد" رغم انتشار قواته في أنحاء العاصمة وعلى تخوم الجبل. لكن، سرعان ما كانت صورة الجيش تتكلل بالأعذار والغفران: إما لظروف الحرب التي تعتبر "استثناء" لا يُقاس عليه. وإما تفهّماً لضغوط الوصاية السورية وأزلامها اللبنانيين، على الجيش وقيادته. أو افتتاناً بـ"حِكمة" الجيش (وفي قول آخر: التسليم بقلّة حيلته) بحيث "تفادى التورط" في النزاعات السياسية الطائفية...

والحال، إن "المعارك الوطنية" الفعلية التي خاضها الجيش اللبناني منذ انتهاء الحرب، تركّزت على تجمعات "الغرباء"، وتحديداً الحلقات الأضعف بينهم باعتبارهم "الحيوات العارية" بحسب مصلح جيورجيو أغامبن، كما في مخيم نهر البارد الفلسطيني العام 2007، والآن مخيمات اللجوء السوري. حتى حرب الجيش على الإسلاميين المتطرفين في الضنية العام 2001، ثم على جماعة أحمد الأسير في صيدا العام 2013، سهّلها أنه لا خيمة سياسية-طائفية فعلية فوق رؤوس هؤلاء، وإن لقوا تعاطفاً هنا وتأييداً محدوداً هناك، وبذلك هم "غرباء محليون". وهذا ليس انتقاصاً من تضحيات الجيش وانتصاراته المخضبة بالدم والخطف، رغم أخطاء وانتهاكات يجب الاعتراف بها. وقطعاً، لا تحريض ولا "تطاول" ههنا على عسكر لبنان، أو صورته الوطنية، إذ لعله الحصن الأخير المتبقي لهذا البلد المضطجع فوق فوالق زلزالية شتى.

لكن التحقيق في مسألة وفاة المعتقلين السوريين والذين لم يتسنّ التأكد من تورطهم في نشاط إرهابي، هو أيضاً ضرورة لحماية السِّلم الأهلي الهش. لكنها، للأسف، لم تتبلور كمطلب وطني جدّي، لا في جلسة مجلس الوزراء أمس، ولا في السجال الشعبي والإعلامي. تماماً كما ظلّت فضفاضة مسألة السيادة اللبنانية المتمثلة في انتشار الجيش فوق كامل تراب لبنان وعلى اتساع سمائه، مع الضبط التام للحدود. إذ ما زال مقتل الطيار سامر حنا ماثلاً في الأذهان. وكذلك الموقف الرسمي اللبناني بالنأي بالنفس عن الحرب السورية، في حين يعبر مقاتلو "حزب الله" إليها، كل يوم، براحة وعلانية.. بل وأعلن أمينهم العام، قبل أيام، حتمية استقدام المقاتلين من إيران والعراق واليمن وأفغانستان وباكستان، في ما لو شنّت إسرائيل حرباً على لبنان أو سوريا.
ولا يتبقى إلا الأمل: تسلم يا عسكر لبنان.. من البعثنة والمرتزقة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها