فتمرد شولم على والده اليهودي غير المتدين، وعلى قيم البرجوازية الألمانية في فترة ما بين الحربين الكبريين، والتي قادته إلى التحول إلى دراسة اللاهوت اليهودي واللغة العبرية في برلين قبل انتقاله إلى فلسطين العام 1923، تجد ما يقابلها في سيرة الكاتب. فبورشنيك، الذي نشأ في حي أميركي في إحدى ضواحي الطبقة المتوسطة، كان لأزمته مع أصوله اليهودية وتاريخها المنسي، وتأففه من قيم الإستهلاك الرأسمالية، أن تنتهي به أيضاً إلى القدس، التي انتقل للاستقرار فيها في ثمانينات القرن الماضي. هرب شولم من الغيتو، الذي اتهم والده بالعيش فيه وإنكاره، ومن مصير شقيقه الشيوعي، فرنار، الذي أعدمه النازيون العام 1940، ممهداً الطريق أمام الكاتب، للهجرة إلى إسرائيل، بحثاً عن ذاته، والتصالح مع هويته.
"لكل كلمة في التوارة، ستة الآف وجه"، لم تكن تلك الأناركية الروحية التي اعتمدها شولم لكشف رموز "القابالاه"، وتفكيك مركزية التأويل اللاهوتي، هو فقط ما دفع بروشنيك إلى السير على خطى "نبيّه" شولم، بل إن صياغة الأخير لمعنى "العودة لأرض الميعاد" وهدفها، كمصالحة للظاهر من الوجود مع عناصره الباطنية، ومداواة للطبيعة من اغترابها عن نفسها، هو ما كان له مفعول السحر في كاتبنا.
"من كان غريباً لمرة واحدة في وطنه، سيظل غريباً إلى الأبد".. يتناول الكتاب خيبة الأمل والمرارة التي أصابت شولم، وهو يرى يوتوبيا إسرائيل تنهار أمامه يوماً بعد يوم. فالقيم المادية التي فر منها في برلين، وجدها أكثر حضوراً في موطنه الجديد، وصوفيته لم تجد مكاناً لها، لا بين علماني الكيبوتزات ولا في حارات حريديم القدس، وأقلقت كل تلك "القسوة تجاه العرب" تصوراته عن مهمة "الشعب المختار" في شأن مداواة العالم، وإنقاذه من بربريته.
يربط الكتاب بين شعور شولم بالإغتراب في دولة إسرائيل، وبين تجربة كاتبه الشخصية، التي لم تكن أفضل بأي حال. فقيم الإستهلاكية والفردية الرأسمالية كانت تحاصره في شوارع القدس، والسؤال الذي دار في ذهنه بعد تناوله وجبة في أحد مطاعمها كان يقض مضجعه: "لماذا لا يذهب الصبيان العرب الذين ينظفون الموائد إلى المدرسة؟". في العام 1995، وبعد إغتيال إسحاق رابين وصعود نتنياهو إلى الحكم، عزم بروشنيك على حزم حقائبه، عائداً إلى أميركا، تاركاً وراءه حلمه اليوتوبي، وزواجه الذي انتهى بالطلاق.
يبدو الكتاب جديراً بالاحتفاء، في نقده للصهيونية والمجتمع إلاسرائيلي. لكن مراجعة متأنية له تكشف عما يزعزع الإنطباع الأول تجاهه. فكل من شولم ومن بعده بروشنيك، لم يهجرا حلم يوتوبيا أرض الموعد ولا قناعتهما بشأن مهمة "الشعب المختار"، في أي لحظة، بل إن اغترابهما عن دولة إسرائيل، يبدو متعلقاً فقط بالفارق بين المثال والتطبيق. فالصهيونية، التي كان حرياً بها مصالحة العالم، تظل هي المبدأ اللاهوتي الأسمى، بالرغم من شوائب التطبيق، ونقائض البشر الذين تصدوا لمهمة تحقيقها على أرض الواقع. لم يغادر شولم أرض الموعد، في النهاية، وربما يعود بروشنيك في حال رحيل نتنياهو عن الحكم. تظل فلسطين، الأرض الغريبة، مكاناً للشفقة على الصبيان العرب، الذين تحول الحاجة بينهم وبين التعليم، ومحطة على مسار رحلة ابن الرأسمالية الأميركية للتصالح مع هويته، وبحث غيره عن حل لأزمات البرجوازية الصغيرة الضحلة مع ذواتهم، أو في أحيان أخرى هي مقصد لزيارة عابرة، من قبل السياح الراغبين في مغامرة التصويب ببنادقهم على مجسمات للعرب، بغرض الإثارة والمتعة الصافية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها