الخميس 2017/07/20

آخر تحديث: 15:10 (بيروت)

الوطنية اللبنانية الجديدة

الخميس 2017/07/20
الوطنية اللبنانية الجديدة
increase حجم الخط decrease
لبنان ليس مِصر. المصريون يؤلّهون الجيش. ولذلك أسباب تاريخية واقتصادية متشابكة ومعقدة، من أيام محمد علي باشا وتأسيسه الدولة المصرية حول محور المؤسسة العسكرية، والتي نُصّبت نقطة ارتكاز وأساس بالمعنى الاجتماعي والثقافي للمعاش اليومي والإدارة والاستثمارات. والجيش المصري اليوم يسيطر على ثلث الاقتصاد في أقل تقدير. 


لبنان ليس مصر التي حكمها "البكباشي جمال عبدالناصر"، معززاً شوفينية عربية تُضمِر شوفينية مصرية. وعلاقة المجتمع المصري ذي الغالبية المذهبية المعروفة، ونخبته الحاكمة والانتلجنسيا من جهة، بالمؤسسة العسكرية من جهة ثانية، مركّبة ومعقّدة، بل و"أصيلة" إن جاز التعبير في وصف جذورها العميقة. علماً أن انقلاب 30 يونيو 2013، ودولته، فتحا عيوناً كثيرة على صورة أخرى للجيش من زاوية مختلفة تماماً، بعدما كان آخر أضغاثها وقفته المزعومة إلى جانب ثوار 25 يناير2011، مع الاعتراف بأن منتقدي الجيش المصري (ومحاكمه العسكرية وأجهزته الأمنية ورجال أعماله...) أقل بكثير من مُقدّسيه، سواء كان الأخيرون مدفوعين بالخوف والرهبة، أم بالمشاعر "الوطنية" والهوياتية المريضة.

لكن، مجدداً، لبنان ليس مصر. ومع ذلك، نراه يزايد على بَلوَتها القومية.

لبنان ذو النظام الطائفي، والمحاصصة الفئوية. لبنان الحرب الأهلية التي أدت إلى انقسام الجيش. ولبنان "الطائف" الذي وزّع الدولة ومنافعها على أمراء الحرب في مقابل "ضبضبة" مليشياتهم وأسلحتهم وقتلاهم ومفقوديهم، مُطلِقاً يد "حزب الله" وسلاحه، ومفوّضاً نظام حافظ الأسد كمُشرف – مثل "فتوّة" غليظ العصا نهِماً للخوَّات – على الانتظام اللبناني في سِلمِه الجديد وحياته السياسية المفتعلة وإعادة إعماره، وكل هذا في ظل استمرار "مقاومة إسرائيل". لبنان الذي جعل جيشه ركناً في ثالوث مضحك مبكٍ اسمه "شعب، جيش، مقاومة"، مكرَّسٍ في أكثر من بيان وزاري حتى بعد تحرير الجنوب، في حين ما زال جيشه وقواه "السيادية" دون امتلاك حصرية العنف على كامل الأراضي اللبنانية. الجيش اللبناني الذي ما انفكت القوى السياسية-الطائفية، في سياق صراعاتها الأزلية على مرافق الدولة والنفوذ، تتولى التفاوض على ترقياته وتعييناته ومنصب قيادته، إضافة إلى تعويضات متقاعديه بل و"التوازن الطائفي" في طالبي الانتساب إليه.. هذا الجيش، كيف أصبح فجأة رمز المشاعر الوطنية والانتماء اللبناني؟ وأي انتماء؟ ولأي وطن؟

التأمل في الخطاب السياسي والخريطة الطائفية في لبنان اليوم يفضي إلى عدد من الملاحظات. أوّلها، صعود المشاعر اللبنانوية من قبو النفي، نفي الآخر. لكن الآخر اللبناني، بالنسبة إلى "العهد القوي" وأبواقه، صار حليفاً وشريكاً في الحكم. في صوغ الانتخابات وقانونها الضامن للمحاصصات عينها، وفي تقاسم الثروات والصفقات المنتظرة. إذن، فليكن البحث عن آخر أسهل. وهذا موجود، بطّة جالسة في مَرمانا: اللاجئ السوري. هو الآخر الذي أثمر الخطاب اليميني السائد، عالمياً ومحلياً، في جعل جسمه "لبّيساً" لكل الآفات الجُرمية والإرهابية، كما لتهمة العبء الاقتصادي والخطر الديموغرافي. هكذا، تجاوزت الوطنية اللبنانية الجديدة، عُقدة التفوق التقليدية المعروفة، لتقترب من الفاشية، ولتقول: أنا لبناني لأني لست سورياً، أعود قوياً ومرهوب الجانب بقدرتي الآن على كراهية السوري ورفضه بعلانية صلفة، وبحقّي في المساعدات التي تأتي باسمه. بتمكّني من أدوات تصفيته، سواء بتدبّر ترحيله إلى جلاده (الذي كان يوماً جلادي!) أو بتصفيته جسدياً ومعنوياً، بالضرب والإهانة ومنع التجول والتحقير. عبر البلديات وأجهزة الدولة، ومن منابر الإعلام الخاص والشبكات الاجتماعية.


حُشر اللاجئ الفلسطيني، ذات مرة، في زاوية مشابهة، لكن الصورة اليوم أبشع وأكثر وقاحة. فالفلسطيني كان مسلّحاً لفترة، وتورط في الحرب الأهلية، بل وكان له مؤيدون وداعمون، عسكرياً وإيديولوجياً، من بين الأطراف اللبنانية المتقاتلة، إلى أن انكسر وصار مستباحاً للمجازر والتهميش. أما النازح السوري اليوم فهو الحياة العارية، مكسَر العصا الأعزل من أوّله، فيما طيران النظام السوري يقصف أراضي لبنانية بحجة محاربة "الإرهاب"، بمباركة العهد وحلفائه.

ما عادت كافية للفهم والتفسير، حجج الذاكرة اللبنانية عن سوريا، وتجربة الاحتلال/الوصاية، والعلاقات مع ضباط استخبارات "البعث" الذين عاثوا في البلاد فساداً وقمعاً وتعذيباً في معتقلات خاصة.

مثلاً، الطرف المسيحي، أي "القوات اللبنانية"، الذي تعاطف، ذات مرة، مع الثورة السورية باعتبارها تشاركه عداءه للنظام الأسدي، التحق بالخطاب العوني الذي تبرأ بدوره من نضاله وحروبه مع الجيش السوري وطبّع مع نظام الأسد منذ عودة قائده من منفاه الفرنسي، وها هو يقود جوقة الكراهية والتحريض على النازحين السوريين – ضحايا حليفه. كأن "القوات" تريد القول إن التيار العوني ليس أكثر مسيحية مني، خصوصاً بعد التحالف الذي أوصل ميشال عون إلى سدّة الرئاسة، واليوم الانتخابات على الأبواب.

"تيار المستقبل" مستعد لكل شيء في مقابل عودة ميسّرة إلى رئاسة الحكومة، تعوّض خسائره المالية والجماهيرية والخدماتية المستقطبة للولاء الطائفي المحلي، إلى درجة "تضحيته" برمزيته الطائفية الإقليمية ممثلةً بتراجُع سعد الحريري عن تحفّظه على العملية العسكرية في عرسال.

"حركة أمل" كسرت صمتها الحيادي إزاء الحرب السورية، وأعلنت تأييد النظام.

"حزب الله" على موقفه، مليشيا إيرانية تساند النظام في حربه على شعبه في سوريا، وطموحها طموح الفقيه وولايته.


الكل يريد أن يكون حسن نصرالله، قائد مليشيا أصبحت جيشاً بكل معنى الكلمة، يمون على قاعدته الشعبية إلى حدّ تجنيد القاصرين وأكثر من فتى وحيد لأهله، في حربه "الوجودية" خلف الحدود، بحُجّة تطويق التكفيريين واستباق الإرهاب. الخطاب اللبنانوي، شبه الموحّد اليوم، في العنصرية إزاء اللاجئ السوري والتحريض عليه، يصبو إلى استكمال "الوحدة" بالإنكار والنفي، وبعدوٍّ كامل الأوصاف في مذهبه وجنسيته وهشاشته. لطالما اعتبر المسيحيون اللبنانيون، وتحديداً العونيون، المؤسسةَ العسكريةَ ملعبهم الأثير. لعل التصارع الداخلي لم تنتفِ محفزاته، لكنه لم يعد ممكناً في الصيغة اللبنانية التوافقية الراهنة. لا بالهجوم على سعد الحريري (من يذكر "الإبراء المستحيل"؟ وخطاب "لن نعود أهل ذمة"؟)، ولا على نبيه بري ووليد جنبلاط وسائر الأقطاب الذين لن يسير مركب من دون أي منهم. لكن "الحرب" ما زالت قابلة للتفريغ في ملفات النازحين السوريين وأجسادهم.. تلك الكتلة البشرية التي كان الحليف الأبرز للعونيين، أي "حزب الله"، أحد أسباب نزوحهم من قراهم السورية، لا سيما في عرسال. الذات اللبنانوية الناهضة بعنف المضطهَد الذي صار مضهِداً، تتكئ الآن على تقديس الجيش. وإن كان لله حزبٌ، فلهولاء اللبنانويين الجيش الوطني. وإن كان لـ"البعث" السوري أبٌ خالد ورّث "سوريا الأسد" إلى ابنه بشار الذي تُسرّب فيديوهات شبيحته وهم يجبرون أسرى المعارضة على السجود لصورته وتقبيل جزمات عساكره في أثناء تلقيهم الشتائم والركلات، فإن لـ"بيّ الكل" (ووريثه الجاهز والمعروف) شبيحة يجبرون النازحين السوريين على عبادة الجيش اللبناني وقائده ورئيس الجمهورية الآتي أيضاً من المؤسسة العسكرية. 

هؤلاء المعتدون اللبنانيون ليسوا بالضرورة مجنّدين رسميين لخدمة خطاب الكراهية المتفاقم. من الواضح أن بعضهم الكثير متطوّع من تلقائه، لتعميم خطاب الكراهية في الشارع والصالونات والمقاهي، ولإنتاج فيديوهات التعنيف، والقتال إلكترونياً في مواقع التواصل الاجتماعي. وهنا الخطورة الأكبر.

لبنان ليس مِصر السيسي، ولا سوريا الأسد. لكنه يحسدهما فيتشبّه بهما، وهذا هو مَرضُه الوطني الجديد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها