الإثنين 2017/05/08

آخر تحديث: 12:29 (بيروت)

رياض الريس: نكران النهايات

الإثنين 2017/05/08
increase حجم الخط decrease
بصبر وتأنٍ تدوّن سعاد جروس تلك الذاكرة، التي يجهد رياض الريس في استحضارها. ذاكرة لا ينفصل فيها الثقافي عن الصحافي، السياسي عن الأدبي.. ذاكرة بلاد وناس وحكومات وجرائد وكتب ومدن، عايشها وصنعها وشهد عليها هذا الصحافي والناشر (والشاعر السابق). ذاكرة من كواليس وأسرار ومغامرات وصداقات تتقاطع بين رجالات الأمن والشعراء، المحاربين والمفكرين، الروائيين والجواسيس، رجال الدين والملحدين، الرؤساء والصحافيين، الغرب والشرق، رصيف المقهى وبلاط الحاكم.. ذاكرة شخصية جداً لكنها لا تنفصل عن تاريخ قضايا ومصائر مجتمعات.

على الرغم من أن الريّس نشر طوال ثلاثة عقود "الجانب الآخر للتاريخ: أسفار صحافي في طرق العالم" أو "قبل أن تبهت الألوان – صحافة ثلث قرن" و"صحافي ومدينتان" و"آخر الخوارج" وغيرها (36 كتاباً)، وفيها الكثير مما يعود إليه في كتابه الجديد، إلا أن الريس أراد أن ينجز كتاب ذكريات، لا كتاب موضوعات وأفكار. لم يشأ أن "يؤلف"، بل أن يتذكر ويروي. فمع هذين الفعلين (التذكر والسرد) تصير الوقائع والأحداث وعلامات الماضي ومغامراته أقرب إلى سيرة حميمة. ربما لهذا السبب لم يجلس وراء مكتبه لينجز هذا الكتاب، بل "استأنس" بجلسات كثيرة يروي فيها شفهياً كل ما يأتي إلى خاطره، وكل ما يحضر في ذهنه، في حوارات طويلة متعددة الحلقات والجلسات أجرتها ودوّنتها سعاد جروس، في صيغة متحررة من التعاقب الكرونولوجي وأكثر إخلاصاً لتداعيات ذاكرة صاحب هذه السيرة. تقول جروس: "جرى الحوار بألق حديثه اليومي والاعتيادي أو مرحه ورشاقته، فكانت التنقلات سريعة في المكان والزمان". أما رياض الريس فيتساءل عن معنى تدوين الذكريات، عن فحوى النظر إلى الماضي ونبشه: "... وما أهمية ما عشته أو خبرته بالنسبة للآخرين، إلى أجيال ازدحمت حياتها اليوم وبات بينها وبين التاريخ القريب نوع من الزجاج العازل؟ بصراحة أكثر، هل لتجاربك بعد كل تلك السنوات أية قيمة اليوم؟"

ليس صدفة أن يخرج الآن كتاب بعنوان "صحافي المسافات الطويلة" في لحظة تساؤل جدي عن مصير مهنة الصحافي، دوره ووظيفته ومكانته والحاجة إليه. كأن الكتاب جاء به صاحبه ليذكرنا بما كانت تنطوي عليه مهنة الصحافة، والمكانة التي كان يتمتع بها الصحافي، بل والسلطة المعنوية والمادية التي رافقت صورة الصحافي وعمله في أذهان العامة.

وذكريات رياض الريس تأخذنا إلى سيرة صحافي عمل منذ مطلع الستينات في أبرز صحف بيروت في زمنها "الأسطوري"، عمل مع كامل مروة صاحب "الحياة"، عمل مع سعيد فريحة صاحب دار الصياد وجريدة "الأنوار"، ومع غسان تويني في "النهار". أي كان له الحظ أن يعيش في أفضل أوقات الصحافة وأن يعمل في كبريات الصحافة البيروتية في عهدها الاستثنائي آنذاك. ثم وبعد اندلاع الحرب في لبنان، يذهب إلى لندن ليؤسس "المنار"، أول صحيفة عربية في بريطانيا، قبل أن يقفلها ويلتحق بمجلة "المستقبل" الباريسية.

ولأنه كان الناقد الأدبي والشاعر ضمن حلقة مجلة "شعر" والصديق القريب لتوفيق الصايغ وجبرا ابراهيم جبرا ويوسف الخال وسواهم من مثقفي جيل الستينات، فلن يكون صحافياً وحسب، بل الكاتب والمثقف الذي سيؤسس دار نشر تحمل اسمه، ومجلتي "الناقد" و"النقاد". وهو في كل الأحوال السوري واللبناني والمغترب والذي ظل "العروبي المستقل"، من تلك النخبة الحالمة بالوحدة والتحرر.

على هذا النحو، يبدو رياض الريس كأنه يجمع في ذكرياته، سيرة مهنة كانت خطرة وباتت محتضرة، وسيرة ما قد نسميه "حركة الحداثة" العربية، التي ربما كانت "واعدة" وصارت الآن "خائنة". ولذا تبدو هذه الذكريات بمثابة شهادة شخصية تضمر عبرة عامة وتاريخية. وإذ نتأمل اليوم بمصائر تلك الصحف وذاك الجيل، بل وكيف "خسر" رياض الريس موقعاً إثر موقع، فيعود إلى الجذر الأساس، إلى إرث الوالد نجيب الريس، مؤسس صحيفة "القبس" الدمشقية، وأحد رجالات الاستقلال السوري.. فيحاول العودة إلى مسقط الرأس عسى أن يستأنف بدءاً تاريخياً، في سوريا "جديدة" لوحت بها سنونوة متوهَمة ذات ربيع مزيف، فيروي في مطلع الكتاب ذاك الوعد الكاذب عام 2000، ويكتشف استحالة "القبس" وكل صحافة حرة هناك. اكتشاف يقارب مواجهة فجيعة النهايات.

منذ ذاك الوقت، كان يصارع رياض الريس كي يستكمل مغامراته التي اشتهر بها منذ أواخر الستينات، من ربيع براغ إلى عدن وعمان والإمارات والكويت والبحرين وهونغ كونغ وفيتنام واليونان ومصر.. قبل أن يداهمنا جميعاً "الربيع العربي" برياحه التي أتت من كل صوب (هذه المرة، صاحب "رياح الشمال" و"رياح الجنوب" و"رياح السموم" لن يكون قادراً لا على التنبؤ بها ولا على تدوين أسرارها)، ويداهمه المرض، فيشعر أن لا مغامرة جديدة ولا سفر ولا رحلات المسافات الطويلة، وأن المهمة الأخيرة – وهي الأصعب – فك شيفرة صندوق الذاكرة وفتحه والنظر في مخبوئه.

وإذ نتأمل في غلاف "صحافي المسافات الطويلة" (لوحة عائلية رسمها الفنان الإنكليزي جون نورتون – لندن 1984)، نشعر أن ثمة رضى عميقاً وراحة تامة في سريرة رياض الريس، الذي أحب أن يكون دوماً "مثيراً للجدل" (عبارة أثيرة لديه) تواضعاً عن القول "مالئ الدنيا وشاغل الناس". 
   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها