الخميس 2024/04/25

آخر تحديث: 14:55 (بيروت)

مئة عام على "السوريالية"

الخميس 2024/04/25
مئة عام على "السوريالية"
مع السوريالية، لم يقتصر تحرير المخيلة على الفن والأدب (Getty)
increase حجم الخط decrease

غالباً ما نستعملها كصفة عدمية، كدليل على الفوضى، وكمذمة، خصوصاً في نظرتنا إلى السلوك السياسي. من يتابع جلسة لمجلس النواب اللبناني مثلاً، أو من يقرأ الحوار الأخير مع بشار الأسد، وقبله ما كان يفعله ويقوله معمر القذافي، يقول: سوريالي. وفي السنوات الأخيرة، صرنا نكثر من استعمالها للتعبير عن واقعنا الاجتماعي والعمراني والاقتصادي. فكلمة "سوريالي" تختصر أحوالنا اللامعقولة واللامقبولة والفالتة عن أي سيطرة. وتحولت "السوريالية" إلى صفة لتعيين كل ما هو فاسد وخرب ومتحلل وخارج عن أي انضباط أخلاقي أو خال من الحس السليم.

كأننا بذلك نكمل سلسلة التشويهات التي نقترفها للكثير من المفاهيم والأفكار والمعاني. شوهنا سابقاً معاني الديموقراطية والاشتراكية والحرية، ثم الحداثة والهوية والأصالة والتراث والدين نفسه.. وبعد ذلك، السياسة برمتها.

اليوم، وفي ذكراها المئوية، يجب أن نعيد الاعتبار لهذا المصطلح البديع: السوريالية. إنه واجب سياسي وثقافي ضد التشويه، ضد الخراب والأمّية، وضد اليأس والتفاهة، ضد اللامعنى الذي يحاول فرض سلطته القاتلة على أرواحنا.

من رحم الحرب العالمية الأولى وجحيمها، ومن نتاج عصر الآلة والطيران وعلم النفس والفوتوغراف والكهرباء والقطارات والسينما، وأيضاً الثورة البولشيفية والأنفلوانزا الإسبانية.. ومن مقدمات ملهمة كالحركة الدادائية، والتعبيرية الألمانية، ومن آباء مبجّلين، كأرثور رامبو ولوتريامون وغيوم أبولينير، أتت الحركة السوريالية.

قبل مئة عام (1924)، صدر البيان التأسيسي للسوريالية، الذي سيكون إعلاناً مدوياً عن انتصار المخيلة وتحررها. حدث سيغير جذرياً تعريف الفن والأدب.

أفضل ما في هذه الحركة هو دعوتها الضمنية لتجاوزها، كما أسوأ ما فيها الثبات فيها. فالسوريالي الحقيقي هو الذي يخون سريعاً "مبادئها" نحو المزيد من الحرية والتجريب والتخيّل. ذاك ما سمح لها أن تكون هائلة التأثير إلى يومنا هذا. باتت صفة تستحوذ على كل ما هو غير مألوف، وحلمي و"مجنون" وشاعري. 

العالم اغتنى وتلون وتوسع بها. "الواقع" نفسه ما عاد واقعياً. فالتخريب الذي أحدثته السوريالية في تعريف الوعي والنفس والتعبير والجمال والحب.. ترك أثراً عميقاً على نظرتنا لأنفسنا وللوجود. "العقلانية" نفسها وُضعت قيد المحاكمة والمراجعة، إلى حد إعادة النظر حتى في فلسفة العلوم.

مع السوريالية، لم يقتصر تحرير المخيلة على الفن والأدب. فما حدث هو التمرد على "النظام" و"المنطق"، أي على السلطة نفسها (الكنيسة، الدولة، القانون..). التفكير أصبح بلا قيود وفوق عقلاني. أفضى هذا إلى ما يشبه الزلزال الأخلاقي. المزيد من تحرر المجتمع والفرد. وبالأخص تألق "الفردانية" وحريتها.

فعاليتها أنها لم تدم كـ"مدرسة"، بل تسللت إلى كل شيء: العمارة، الأزياء، الفلسفة، السياسة، الفيزياء النظرية، تصميم المفروشات، العلوم الاجتماعية، وبالتأكيد علم النفس.. أعادت تشكيل العالم الواقعي ومنحته السحر اليومي. اللامألوف والمجنون في صميم عاديتنا. اندماج الحلم باليقظة. فنحن لا نشبه الإنسان القديم. نحن سورياليون على نحو خفي. ذاك من معنى "الإنسان الحديث".

هذه القوة المحرِّرة، هذه الثورة، ستجد صداها في بلادنا العربية، وبالأخص في مصر مع جماعة "الفن والحرية"، التي ضمت كامل التلمساني، رمسيس يونان، جورج حنين، فؤاد كامل، وإنجي أفلاطون.. وفيما بعد جويس منصور. وكانت أهميتها التاريخية كواحدة من تعبيرات التحديث والتحرر في المجتمع المصري، والتمرد على المنظومة المحافظة.

في الثلاثينات، ستكون السوريالية في لبنان فرانكوفونية، مع جورج شحادة، وأنطون تابت، وأنطوان موراني، وإسكندر أبو شعر، ونعمة إدّة.. وفي منتصف الخمسينات، ستنفجر على نحو واضح وجلي في الأدب المكتوب باللغة العربية وفي الفنون التشكيلية، مع جماعة مجلة  "شعر"، وبالأخص عند صدور كتاب "لن" لأنسي الحاج.

من بيروت والقاهرة، عاصمتيّ النهضة العربية، ومع هذا الاستلهام المبدع للسوريالية، ستتجدد مغامرة الحداثة والحرية والثورة على كل ما هو راكد وبليد. وستظهر روح أخاذة في الفنون والأدب والعمارة والفكر السياسي، وستفتح نافذة مشرقة للتمرد الفردي. كان ذاك زمن آخر، انصرم وتبدد.

خسرنا السوريالية المحرِّرة، والحلم، والأمل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها