الأحد 2017/05/28

آخر تحديث: 11:44 (بيروت)

داليدا في مجلتها.. وقائع زيارة أخيرة لـ"أحسن ناس"

الأحد 2017/05/28
increase حجم الخط decrease
في الشرفة ذاتها التي وقفت فيها داليدا قبل سنوات بعيدة من الآن، وقفت أسرة تحرير المجلة المصرية التي تحمل اسمها والتقطت الصورة التذكارية نفسها.. الحي نفسه، والبيت نفسه أيضا، لكن البلد لم يعد كما كان.

تغير حي شبرا. الحي الذي استقبل المهاجرين من البحر المتوسط والدلتا والصعيد، المتعدد الأجناس والأعراق، فبعد رحيل الأجانب عنه تغير وجه شبرا، لم يعد مثالا للتعايش المشترك، سيطرت عليه موجات الهجرة المتتالية من الصعيد، أجيالا جديدة لا تعرف الاختلاف والتعددية ولم تر التنوع الفكري الذي أضافه وجود الجنسيات الأجنبية القادمة من الضفة الأخرى للمتوسط، فاختلف نمط الحياة وتغير وجه الحي الكوزمبوليتاني للأبد.. لذا كان من المنطقي أن يدير الحي ظهره الآن لابنته بعد أن كان قد فتح لها ذراعيه في الماضي خلال فترته الذهبية.

لن يصل سقف طموحنا إلى حد المطالبة بتخصيص البيت كمتحف لبنت شبرا التي أبهرت العالم، للشخصية المدهشة، المحيرة، والملغزة، التي فتنت العالم وحيرت الناس، لا سمح الله! لكن على الأقل أن يعرف أهل حيها قدرها ويحفظوا سيرتها.

الآن، لا يرى المالك الجديد لبيت داليدا أنها تستحق هذا الاهتمام كله! يقول لأسرة التحرير التي خصصت العدد الجديد من المجلة للاحتفال بالذكرى الثلاثين لرحيل الديفا إن هناك من هو أحق منها "توفيق الدقن، وحسين رياض، وعلى الكسار، ومحمود المليجي وحتى سعاد نصر"، وكلهم سكنوا في حي شبرا "مخزن الفن" وكلهم في نظره يستحقون الاهتمام أكثر من داليدا التي لم يرها أكثر من سائحة "حين جاءت لزيارة البيت بعد أن أصبحت مشهورة لم تكن تذكر أحدا من جيرانها".

بيت داليدا كما يقول مالكه الآن كان "بنسيون" تديره والدتها الإيطالية لخدمة الصفوة من الطبقة الارستقراطية التي كانت تتردد على الحي، الذي كان بدوره مليئا بالقصور والفيلات والعزب والحدائق والكازينوهات والتياتروهات، لم يكن في المبنى شقق سكنية، كما هو الآن، بل كان السطح عبارة عن "روف" وزعت فيه النباتات فبات أشبه بحديقة مصغرة، والدور الأرضي مخصص للخدم، فيه يعدّ الطعام وما يحتاج إليه نزلاء البنسيون، والدور الثاني كان مخصصا لعلية القوم من الباشاوات "وهذا ما دفع والدة داليدا إلى تهريب ابنتها إلى فرنسا خوفا عليها من الباشاوات الذين دأبوا على زيارة المكان"!

ورغم التغييرات الكبيرة التي طالت المكان والحي والبلد بأكمله، ورغم أن الزيارة سبقت رحيلها بعامين تقريبا يتعجب مالك البيت من تشتت داليدا خلال زيارتها "لم أشعر بأنها كانت تبحث عن الذكريات، هي مش مننا"، أي ذكريات وقد دارت عجلة الزمن وداست في طريقها كل شيء، يكمل: "جاءت مع مهرجان من المصورين الذين يتحركون في كل مكان بتوجيه من المخرج يوسف شاهين، ثم خرجت إلى البلكونة حيث وقفت بجوارها وسألتها هل تذكرين جيرانك هنا؟ فأجابت بالنفي".


الكاتب أحمد السماحي يروي في العدد نفسه تفاصيل تلك الزيارة لكن برؤية مغايرة، فيقول إنها سبقت العرض الأول لفيلم "اليوم السادس" حيث أصر يوسف شاهين على زفة تنطلق من شبرا لأن داليدا مولودة فيها، ولأن محسن محي الدين بطل الفيلم مولود فيها أيضا، يضيف السماحي "السعادة كانت تبدو على وجه داليدا وهي ترى نفسها محاطة بأهل شبرا، ووسط زفة جعلتها تشعر بدفء الحب الشرقي، الذي لا تجده في المجتمعات الأوروبية التي تعيش فيها وفجأة ظهرت في أحد شوارع شبرا وأثناء سير الموكب أو الزفة سيدة مسنة يقترب عمرها من الثمانين، وأشارت لداليدا بأيديها وأرسلت إليها قبلات في الهواء، وعلى الفور تذكرتها داليدا، فكيف تنسى هذا الوجه الذي ساعدها كثيرا وكان الصندوق الأسود ومستشارها العاطفي والإنساني؟ فهي جارة قديمة كانت تسكن في نفس الشارع وأيضا مدرستها في مدرسة "ماريا أوزيليا تريس" الثانوية". حسب رواية السماحي طلبت داليدا من شاهين التوقف بالسيارة المكشوفة التي تحملها ونزلت مسرعة لتحتضن السيدة المسنة وتبكي من الفرح، في موقف سجله يوسف شاهين بعدسته التي سجل بها وقائع الزيارة كلها، ووعدتها بلقاء في اليوم التالي، ونفذت وعدها فعلا. يقول السماحي أيضا أن شاهين أنتج بعد ذلك فيلما عن وقائع الزيارة كاملة ورفض بيعه بعد ذلك، رغم المطالبة المتكررة للموزعين الذين اشتروا حقوق "اليوم السادس" حتى إنه بالغ في سعره بعد ذلك ليتخلص من إلحاحهم.


لم تكن تلك هي الزيارة الوحيدة التي يراها فيها صاحب البيت، تلتها زيارة أخرى، يقول إنها كانت بصحبه أخويها، وأنه احتد على المصورين الذين انتهكوا حرمة البيت، وأنها للمرة الثانية لم يكن فيها أي نوع من الحنين "لم أستشعر هذا إطلاقا"!

وقبل هاتين الزيارتين وخلال فترة السبعينيات زارت داليدا مصر عدة مرات منها واحدة بدعوة من الرئيس السادات شخصيا، فقد كانت لداليدا مكانة مميزة خاصة وإنها معروفة على أنها مولودة في مصر سافرت إلى فرنسا ونجحت هناك. هذا الأمر عزز الرابط بينها وبين الجمهور العربي أيضا. عودتها إلى مصر، وسفراتها المتعددة إلى لبنان في الفترة نفسها، دفعتاها إلى التفكير بالغناء باللغة العربية. فكانت أغنية "سالمة يا سلامة" عام 1977 وهي بالأصل أغنية فلكلورية مصرية. وأُطلقت هذه الأغنية في فرنسا وفي الشرق الأوسط، ولاقت نجاحاً هائلاً مما دفع بداليدا إلى ترجمتها وتسجيلها بـ 5 لغات مختلفة. وعام 1978، عادت لتكرار التجربة مرة أخرى بـ"ميدلي" لأجمل الأغاني المصرية مع "أغاني أغاني"، ثم غنت بعد ذلك "حلوة يا بلدي" التي اعتبرتها تكريما للبلد التي ولدت فيه وعاشت به فترة طفولتها وصباها، وأكدت من خلالها حنينها لمصر ولحبها الأول فيها:
كلمة حلوة وكلمتين، حلوة يا بلدي
غنوة حلوة وغنوتين، حلوة يا بلدي
أملي دايماً كان يا بلدي، إني أرجعلك يا بلدي
وأفضل دايماً جنبك على طول
وذكريات كل اللي فات، فاكرة يا بلدي؟
قلبي مليان بحكايات، فاكرة يا بلدي؟
أول حب كان في بلدي، مش ممكن أنساه يا بلدي
فين أيام زمان، قبل الوداع 
كما غنت للبنان أيضا الذي زارته خلال جولاتها المتعددة وخصصت له أغنية "لبنان". أما أكثر أغانيها شهرة وتأثيرا في مصر فهي "أحسن ناس" التي غنت فيها لمصر كلها، وكتبها لها صلاح جاهين ويقول مطلعها:
آدينا بندردش.. ورانا إيه؟ 
بنحكى ونفرفش.. ورانا إيه؟
ومنين يا بلدينا
وبلدكم إيه؟
أحسن ناس
وفى نهايتها تقول مشيرة إلى نفسها:
أما أنا.. أنا من شبرا
فى مصر وولادها الطعمين
زى القمر، بعيون سمرا
لابسين عقود فل وياسمين
والنيل بيضحك ويغنى
فاكرني وبيسأل عنى
أروح له ألقاه مستنى
وجنب منه.. أحسن ناس.
لكن سفراتها الأخيرة فشلت في إعادة شحن طاقتها، وجاءت متأخرة بعد أن هدها الزمن بتقلباته، بعد أن فقدت أزواجها وانتحر عشاقها، وتأكدها من خسارة حلم الأمومة إلى الأبد، واكتملت الدائرة بفشل فيلمها مع يوسف شاهين، الذي قال أنها كانت تود لو أمضت بقية حياتها في مصر، وفي حي شبرا الذي ولدت فيه، لأن حياتها في أوروبا تحطم أعصابها.
تعبت من القتال وأنهكتها المقاومة. أصبحت تحس بالوحدة أكثر فأكثر: لا زوج لها ولا أطفال. صارت السنون تتقدم وترمي بثقلها على البطلة التعبة. صحيح أنها غنت "الموت على المسرح" أو "Mourir sur scène "، وصحيح أن هذا كان حلمها، إلا أنها أخذت القرار. اعتبرت أن الحياة لم تعد قادرة على منحها شيئاً جديدا، أو تعوض عليها كل الآلام والخسائر المعنوية. لذلك، وفي ليل 2 أيار مايو 1987 تناولت كمية كبير من المنومات ومهدئات الأعصاب إضافة إلى كأس ويسكي، نجحت محاولتها هذه المرة، واستيقظ العالم على خبر رحيلها ورسالة أخيرة قالت فيها: "سامحوني، لكن الحياة لم تعُد تحتمل".
(مجلة "داليدا" مصرية إقليمية تعنى بالصحافة الشعبية، وتصدر لأهل شبرا ووسط القاهرة.)
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها