الجمعة 2017/03/24

آخر تحديث: 12:22 (بيروت)

ثوركيلد هانسن: عن مصالحة الأدب والتاريخ

الجمعة 2017/03/24
ثوركيلد هانسن: عن مصالحة الأدب والتاريخ
تحتفل الدنمارك هذا العام بالذكرى التسعين لميلاد، ثوركيلد هانسن
increase حجم الخط decrease
"واضح... مما قلناه أن مهمة الشاعر الحقيقية ليست في رواية الأمور كما وقعت فعلاً، بل في رواية ما يمكن أن يقع من الأشياء الممكنة. إما بحسب الاحتمال أو الضرورة، ذلك أن المؤرخ والشاعر لا يختلفان إلا في أن.... أحدهما يروي الأحداث التي وقعت فعلاً، بينما الآخر يروي الأحداث التي يمكن أن تقع، ولهذا كان الشعر أوفر حظًّا من الفلسفة، وأسمى مقامًا من التاريخ، لأن الشعر يروي الكلي بينما التاريخ يروي الجزئي." (فن الشعر، أرسطو) 


تحتفل الدنمارك هذا العام بالذكرى التسعين لميلاد ثوركيلد هانسن (1927- 1989)، واحد من ألمع كتابها في عقدي الستينات والسبعينات، والذي وإن كانت أكثر أعماله شهرة هي الثلاثية الروائية، "العبيد"، فتصنيفه في خانة الروائي لا يقل أشكالية عن محاولة تصنيف إنتاجه طبقا للتقسيم الأرسطي لحدود الشعري والتاريخي. فثلاثيته الروائية، التي تتبع فيها دور الإمبراطورية الإستعمارية الدنماركية (التي توزعت مستعمراتها بين الهند وأفريقيا والكاريبي) في تجارة العبيد عبر الأطلنطي، لم تكن مجرد عمل أدبي تاريخي أو سلسلة من الروايات التوثيقية، بل كانت العمل الأدبي الأول من نوعه عن مسألة العبودية الذي يعتمد كاتبه على فحص وثائق تاريخية بشكل مباشر، الأمر الذي استلزم منه التجول عبر الإطلنطي من شواطئ غانا إلى جزر العذراء الأميركية، رجوعا إلى كوبنهاغن مرات عديدة.

لم ينل هانسن تدريباً أكاديمياً في مجال التاريخ، لذا فهو يقر بأنه لم يكن يعرف على وجه الدقة ما كان يبحث عنه في أرشيفات الوثائق الوطنية التي مر عليها، مكتفيا بالإعتماد على حاسة الأديب وحدها في انتقاء الوقائع وترتيبها وربطها ببعض وتضمين شخوصه الحقيقيين داخلها  (ألا يفعل الأدباء المؤرخون نفس الشيء بشكل أو بآخر). لكن قائمة الوثائق والمصادر في نهايات رواياته، والاقتباسات المطولة منها، ودقة السرد المشفوعة بالتواريخ وأماكن وقوعها لم تكن كافية لأن تأخذ تاريخية أعمالة بجدية أكاديمية، وإن كانت، على العكس، قد جعلت أعماله أقل أدبية في أعين الكثيرين. لكن فرادة إنتاج هانسن لا ترجع لمجرد وقوعه على تخوم التاريخي والأدبي، وبين المساحات الرمادية لتقاطعات البحثي والإبداعي، بل إلى قدرته على رواية الجزئي والكلي في آن واحد، أي نجاحها في مصالحة تاريخ أرسطو بشعره.


فثلاثية العبيد، التي كان من شأنها كشف زيف السردية الوطنية لبلده، والتي بفضلها يفخر الدنماركيون بأن الدنمارك هي أول قوة أوروبية جرمت تجارة العبيد في عام 1792، كما تتعرض للجزئي والحدث التاريخي التفصيلي تنطلق إلى أفق الكلي كذلك، فاحصة أسئلة الحرية والصراع  والموت والقدر. يبدو تأثر هانسن بالوجودية، وبالأخص ألبير كامو، بشكل خاص، واضحا في أعماله، لكن إهتمامه بفحص الفلسفي، تجاوز نافذة الوجودية وموضوعاتها. ففي عمله الوحيد المترجم إلى العربية، "العربية السعيدة"، والذي يتتبع البعثة العلمية الدنماركية إلى اليمن، مرورا بمصر، بين عامي 1761- 1767، يعتمد هانسن، أيضا، على الوثائق التاريخية ومكاتبات أعضاء البعثة الستة، وسجلات الأرشيف الملكي، بالإضافة إلى قيامه بزيارة الأماكن الواقعة على مسار الرحلة، ليرسم حبكة شديدة الانسانية والامتاع عن علاقات أعضاء البعثة بعضهم مع بعض، كاشفاً عن الجزئي، أي السياق التاريخي للأحداث وتفاصليها، لعلاقات الغرب بالشرق، والمؤسسة العلمية بالسلطة السياسية، والديني بالدنيوي. وفي الوقت ذاته، لا يتخلى عن تيماته الوجودية المفضلة، فخلافات أعضاء البعثة بعضهم بعضا، وقصص موتهم جميعاً في أثناء الرحلة عدا واحداً منهم فقط، أتاحت له مادة خصبة لاستكشاف كليات الآخر والصراع والموت والقدر من زاوية وجودية، وفي الوقت نفسه يقدم هانسن نموذجاً أدبياً فريداً عبر حبكته شديد البساطة تلك لنقد منطق عصر التنوير، ونظريته الإبستمولوجيتة، والإستشراق  بل ووضع نظرية المعرفة العلمية كما نعرفها على المحك.


لم يضحّ هانسن بالجزئي في سبيل الكلي، أو العكس، وإن كان واعياً بنظرية السردية في فلسلفة التاريخ التي عاصر تطورها في الستينات، دون التماهي مع افتراضها بأن التأريخ ليس سوى سردية لا تختلف عن الأدب، وظل تدقيق "ما وقع من الأمور" له نفس أهمية "ما يمكن له أن يقع" في أعماله. اختتم هانسن حياته، في أثناء واحدة من أسفاره إلى الكاريبي، حيث أنتهت رحلات العبيد الذين كتب عنهم وسجل تاريخهم، وليموت في أثناء الرحلة كأبطاله في بعثة اليمن، مصالحاً في تاريخه الشخصي ما كان معنياً به في أدبه وبحثه وتتبع مصائر أبطاله. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها