الجمعة 2017/03/17

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

"السوريالية في مصر".. بلا إستشراق أو خطاب وطني

الجمعة 2017/03/17
increase حجم الخط decrease
"كان جورج حنين واقفاً عند مدخل قاعة المعرض، ليقدم للداخل لوحة ضخمة وقلماً، وليطلب بإلحاح أن تكتب شيئاً. كان سلوكه مثيراً للإنزعاج، بملابسه السوداء بالكامل، وفي اختفائه خلف ظلاله الداكنة. ولو استجبت، ستظهر شابة جميلة مرتدية ملابس "فوشية" ضيقة مزينة بالريش من ورائه، لتقودك إلى غرفة العرض الأولى في المعرض. لكن لو امتنعت، ستظهر لك امرأة ضخمة مرتدية ملابس مهلهلة، لتقفز عليك، وتخنقك بكلتا يديها، وبقوة لم أختبر مثلها، بل وحتى ستحاول ايضاً أن تلبسك كيساً كبيراً للقمامة. كان الأمر كله غير قابل للتصديق، لقد كنت صغيراً حينها. بالنسبة لنا، كان هذا هو الأمر الأكثر إثارة. كان الأمر سحرياً. حينها أدركت أنني سأكون "ليبرالياً". واليوم، وقد بلغت أكثر من خمسة وتسعين عاماً، ما زلت كما أنا"...

يقدم اقتباس سام بردويل في كتابه "السوريالية في مصر: الحداثة وجماعة الفن والحرية" (الصادر مطلع العام الحالي، بالإنكليزية)، وصفاً للمعرض الفني الثالث لجماعة "الفن والحرية" في القاهرة العام 1942، منقولاً عن مقابلة هاتفية مطولة أجراها المؤلف مع الرسام المصري، كمال يوسف، أحد مجايلي الجماعة. وفيما يكشف الاستشهاد، التأثير الذي لعبته جماعة "الفن والحرية" في دوائر بعينها واستمراره، وعن الطزاجة المتمردة التي وظفها بعض فنانيها في تحدي قيم البرجوازية المحافظة وتقاليد الفن الأكاديمي حينها، إلا أنه في الوقت نفسه يدفعنا إلى التساؤل عن مدى تجذر ممارسات الجماعة الغرائبية وإنتاجها الفني والأدبي- مع اعترافنا بنخبويتها- في سياقها التاريخي والإجتماعي في مصر وخارجها.

يحاول بردويل في كتابه مواجهة هذا السؤال، كمحور لأطروحته عن الحداثة والفن في مصر، عبر التنقيب في مئات المصادر والدوريات والوثائق والمراسلات والمقابلات، بالعربية والفرنسية والإنكليزية وغيرها، والإطلاع على عدد من المقتنيات الخاصة المتعلقة بالإنتاج الفني والأدبي للجماعة، وإجراء حوارات شخصية مع مجايليها. لكن فرادة محاولة بردويل لا ترجع فقط إلى المجهود البحثي الإستثنائي، والذي يمكن الجزم ببساطة أنه غير المسبوق في دراسة الحركة السوريالية في مصر، بل إلى فرادة الموقع الإيديولوجي والبنية التحليلية التي ينطلق منها بردويل في كتابه ويعمل من داخلها.

يطرح الكتاب، وبشكل مبدئي، تأكيداً على تجذر جماعة "الفن والحرية" في سياقها التاريخي والإجتماعي، نافياً أن يكون مانيفستو الجماعة، "يحيا الفن المنحط"، الصادر في ديسمبر 1938، مجرد استجابة لدعوات السوريالية الفرنسية للانتفاض ضد صعود الفاشية في أوروبا، والهجمة النازية على الفنون، أو كما وصفته إحدى المجلات الفرنسية الثقافية حينها بـ"إنتفاضة الشرق للدفاع عن قيم الغرب". في ذلك السياق، لا يكتفي بردويل بعرض لصعود "الفاشية في الداخل" بصيغ محلية، ممثلة في حزب "مصر الفتاة"، و"القمصان الخضر" الوفدية، وغيرها، وتسربها إلى الجماعة الفنية المحافظة، بل وحتى إلى الاتحادات العمالية، بل يذكّرنا بأن مصر سرعان ما أصبحت طرفاً وساحة لمعارك الحرب العالمية الثانية، التي طاولت طلعاتها الجوية مدينة الإسكندرية نفسها. هكذا يعود بردويل بمانيفستو الجماعة، إلى المواجهة السابقة بين جورج حنين، ورائد حركة "المستقبلية" الإيطالية، فيليبو مارينيتي، في زيارة الأخير إلى مصر في مارس/آذار1938. لم تكن المواجهة مع مارينيتي، الإيطالي المصري (من مواليد الإسكندرية)، مجرد رفض لصعود الفاشية التي تحالفت معها "الحركة المستقبلية" الإيطالية وعمل مارتيني بشكل شخصي في خدمتها، بل إستجابة للتهديد المباشر التي شكلته البروباغندا الفاشية في مصر، على مستوى نخبوي (فعلى سبيل المثال كان طة حسين من مستقبلي مارتيني في تلك الزيارة)، وبين العامة "الذين كانوا يتجرعون الدعاية الفاشية كما يشربون الشاي والقهوة في المقاهي" من إذاعة "باري" الناطقة بالعربية، بحسب تقرير مخابرتي بريطاني.

لكن جماعة "الفن والحرية" لم تكن أيضاً مجرد رد فعل لخطر محلي وآني ومباشر، لأفرادها ومجتمعهم، مثّلته الفاشية، بل كان تفاعلها مع سياقاتها أكثر تعقيداً، وهو الأمر الذي يستعرضه الكتاب في أكثر من محور. أولاً، عبر عرض لمرحلة صعود طبقة الأفندية وبزوغ "الفنان"، وعلاقات ذلك بمشروع التحديث والهوية والوطنية في مصر، وانتفاض "الفن والحرية" ضد قيم تلك المرحلة ومشروعها، أي ضد نخبويتها، ومؤسساتها الأكاديمية والحكومية، وذائقتها البرجوازية، وضيق أفقها الهوياتي الوطني. وفي محور آخر، يستعرض بردويل المقالات والأعمال الأدبية والفنية التي أنتجتها الجماعة في سياق تعرضها للمسائل الإجتماعية في مصر، ويبدو أوضحها موضوع "الفقر" ممثلاً في إنتاج الروائي ألبير قصيري الأدبي، ومقالات رمسيس يونان (التي تصدى في واحدة منها "الفقر كمسألة إجتماعية" لتفنيد خطاب عباس العقاد المحافظ على سبيل المثال)، وكذلك موضوع الثقافة وعلاقة المثقف والفنان بالمجتمع والسياسية، غير استشهاده بانخراط أفراد الجماعة في العمل السياسي المباشر، ممثلاً في حركة "الخبز والحرية"، وغيرها من الحركات الشيوعية المصرية.

وفيما ينجح الكتاب في إثبات تجذر جماعة "الفن والحرية" في سياقها المحلي، فإنه وبالحماس نفسه لا يتوانى عن كشف تفاعل منتسبي الجماعة، مع الحركة السوريالية عالمياً، عبر شبكة متسعة من العلاقات الشخصيات، والمعارض المشتركة، والنشر، والمراسلات التي امتدت لتشمل شبكة واسعة تضم مراكز ثقافية وجماعات وأفراد، من طوكيو مروراً ببيروت ووصولاً إلى نيو مكسيكو، إضافة إلى دوائر السوريالية الفرنسية والبريطانية. وهو الأمر الذي لم يثبت فقط قدرة الجماعة على إنتاج صيغتها الخاصة من "السوريالية"، والتي لطالما أشارت إليها بعناوين أخرى، مثل "الفن الحر" أو "الفن المستقل"، بل وفي مساهمتها في تشكيل سجالات الحركة السوريالية العالمية، بين نسختها المسيسة والتي نبذت الستالينية متحالفة مع التروتسكية لاحقاً، وبين نسخها الفردية البريطانية، والتي وجدت في الفوضوية "سياسة لغير المسيسين"، عبر ميل الجماعة في مصر إلى منطق هيغلي تمردت فيه على بداياتها الماركسية والفرويدية الأولى.

يدحض بردويل في كتابه، الروايتين المهيمنتين على صورة الحركة السوريالية في مصر، نابذاً تصويرها كمجرد تجسيد للإستعمار الثقافي، وتقليد سطحي ونسخ باهت لصرعة السوريالية العالمية من بين نخب فرانكوفونية، وبشكل أقل أنكلوفونية، من بين الجاليات الأوروبية والمختلطة في الاسكندرية والقاهرة. وفي الوقت ذاته، يرفض المروية الوطنية التي ترى في الجماعة أصالة محلية وتعبيراً عن الروح المصرية (أي تمصير السوريالية)، ومقاومة الإستعمار والرأسمالية المرتبطة به.

وعبر تفكيك تلك المرويات الثنائية بين المحلي-العالمي، الاستعماري- الوطني، والفن للفن- والفن المسيس، يكشف بردويل أطروحته الأوسع، والتي تتعدي حركة الفن والحرية وتاريخ السوريالية في مصر، طارحاً منظوراً لتأريخ الثقافة، يتجاوز عدسة النظريات الما-بعد إستعماريه الأكثر رواجاً، والمرويات الوطنية لها. يرفض فكرة المركز والأطراف، وثنائية الشرق-الغرب، والمستعمِر-المستعمَر، ويرى في الفن والحرية نموذجاً هو الأبلغ لكشف شبكة الثقافات المتوازية والمتداخلة، والتي مع الإعتراف بتباين مواقعها وإمكانات القوة والثأثير، إلا أنها ما زالت الحركة بين نقاط تلاقٍ، خطوطها تسرى في أكثر من إتجاه.

وفيما يخلص بردويل في خاتمة كتابه إلى أن "الفن والحرية يمنحاننا مثالاً نحتاجه اليوم عن كيف يمكن للفنان أن يكون منخرطاً سياسياً، دون أن يسيس عمله الفني. وأن يكون منتمياً إلى مكان، ووثيق الصلة بزمنه، من دون أن يقع في قبضة الجغرافيا والزمنية"، فإنه ينجح في دعوتنا إلى إعادة إكتشاف السوريالية في مصر، لا كجزء من الماضي، لدانته أو الإحتفاء به، بل كمادة ثرية لأسئلة ومحاولات إجابة شديدة الصلة بحاضرنا اليوم. فتعيد  صياغة الأسئلة نفسها، عن معضلة الوطنية والتحرر منها، وثنائيات الآنية الزمنية للإبداع وإمكانية الخلود، والخصوصية في مقابل العالمية الإنسانية، والذاتية في مواجهة الإجتماعية، عن معنى الفن في زمن الأزمة الداهمة، وعن علاقته بالسياسة وأدواره في مجتمع مأزوم. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها