الجمعة 2017/12/15

آخر تحديث: 13:20 (بيروت)

جنيف التي ناصرت اللاجئين البروتستانت.. تضيق بالسوريين

الجمعة 2017/12/15
جنيف التي ناصرت اللاجئين البروتستانت.. تضيق بالسوريين
increase حجم الخط decrease
كان الأمر كله صدفة، فزيارتي الى جنيف تأجلت مرتين، وكان من المفترض أن أزورها  نهاية الأسبوع التالي. لكن ما حدث هو أنني وصلت إليها، يوم السبت الماضي، ولم أكن أعرف أنه يوافق بداية المهرجان الأكبر في المدينة، احتفال "التسلق"، والذي استمرت فاعلياته حتى مغادرتي صباح يوم الاثنين التالي.

ما كان في ذهني، قبل وصولي، هو المئوية الخامسة للإصلاح البروتستانتي، الذي تأتي ذكراه هذا العام، وترتبط به جنيف، المعروفة في الماضي، باسم "روما البروتستانتية"، أكثر من أي مدينة أخرى. كنت متطلعاً إلى زيارة "حائط الإصلاح"، النصب التذكاري المميز للمدينة منذ بنائه في العام 1909، والسير من هناك إلى الكنيسة التي كان يعظ بها جون كالفن، القس الفرنسي الذي ستصوغ أفكاره شكل البروتستانتية، أكثر من أي لاهوتي آخر، مع قدر لا بأس به من كل ما نعرفه عن الحداثة الغربية اليوم. كنت قد منيت نفسي بالنظر، إلى "إنجيل جنيف"، الترجمة الأولى للكتاب المقدس إلى الإنكليزية، والتي عمل عليها اللاجئون البروتستانت من إنكلترا وإسكتلندا، في نهاية القرن السادس عشر، لكني لم أر سوى نسخة مقلدة منه في متحف "الإصلاح"، مع غيره من ترجمات الإنجيل الى لغات أوروبية أخرى، عمل عليها المتحدثون بها من اللاجئين في المدينة. لكن، وتعويضاً عن خيبه الأمل تلك، كان يمكنني النظر إلى الإنجيل الشخصي لجون نوكس، القس الأسكتلندي الذي جاء إلى المدينة لاجئاً، ورحل عنها حاملاً معه الكالفينية إلى موطنه الأصلي، محولاً إياها إلى "المشيخية". لم يكن هناك شيء مميز في ذلك الإنجيل، في الحقيقة، لكن كالفينية صاحبه، التي صبغت هيراركية الكنيسة بنظام الإدارة السياسي لمدينة جنيف، سرعان ما عبرت المحيط، مع المهاجرين الأسكتلنديين والايرلنديين إلى العالم الجديد، لتساهم بقدر ليس بالقليل في تشكيل الهوية والنظام السياسي الأميركي. ومن هناك، حملها المبشرون إلى الشرق الأوسط، الذي ينتمي معظم بروتستانتييه إلى الطائفة المشيخية.

وبعيداً من هذا كله، اكتسبت المدينة شهرتها المرتبطة بالتسامح، بفضل استقبالها اللاجئين البروتستانتيين من كافة أنحاء أوروبا، في نهاية القرن السادس عشر، ونالت شرف أن يحمل اسمها العديد من الاتفاقيات الدولية، وأن تكون مقراً لعشرات المؤسسات الدولية، كانت مشغولة باحتفالاتها أثناء زيارتي. فأكثر ألف من أبناء العائلات القديمة في المدينة، كان يجوبون الشوارع في جماعات، وهم بملابس عائلاتهم التاريخية، ويطلقون النيران في الهواء، تخليداً لذكرى "التسلق"، وصد الهجوم الفرنسي على المدينة في العام 1602. كانت الفرق الموسيقية تجوب الشوارع، وتعزف مارشاتها الاحتفالية، بينما تتقاتل مجموعات من طلبة المدارس والجامعة، في الشوارع، بسيوف ورماح مزيفة، من دون أن يعيقوا مسيرة الفرسان التي تقطع الشوارع الضيقة للمدينة القديمة إلى كنيسة كالفن على ظهور الخيول.

لكن ذكرى الغزو الذي اكتشفته إحدى النساء، وأفشلته بإلقاء قدر ساخن من شوربة الخضراوات، على الجنود الفرنسيين وهم يتسلقون أسوار جنيف، لا يُخلد فقط بقدور الشوكولا المصهورة، بل بالتعويذة التي يلقيها أبناء المدينة وهم يكسرون قطع الشوكولا داخلها، "ليتحطم أعداء الجمهورية هكذا". للأسف لم يخل الاحتفال بانتصار الإصلاح على الكاثوليكية، والجمهورية على الملكية، والتسامح على القمع، مما يفسده بالنسبة إليّ، ويمنعني من الاستمتاع بما يكفي، أثناء مشاهدته.

ففي اليوم السابق لاحتفالات "التسلق"، حكمت محكمة عسكرية على أحد ضباط الحدود السويسريين، بالسجن ستة أشهر، مع إيقاف التنفيذ، بعدما ثبت أنه تسبب في إجهاض إحدى اللاجئات السوريات، بعدما منع عنها المساعدة الطبية عمداً، وتركها تنزف لساعات في أحد عنابر الاعتقال، بالرغم من توسلاتها، هي وزوجها. لا تعد تلك الواقعة المأسوية، مجرد سوء حظ في البلد الذي تستضيف مدينته جنيف مقر المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وتحمل اتفاقية اللاجئين للعام 1951 اسمها. فمنذ بداية أزمة اللاجئين السوريين، اتبعت سويسرا سياسة منهجية قاسية، لتقييد حصولهم على حقوق العمل، أو تغيير الوضع المؤقت لإقامتهم. وكان من نتيجة ذلك أن صدر العام الماضي تقرير حكومي، كشف أن أكثر من 40 في المئة من اللاجئين المسجلين، القليلين بالأساس، يختفون، إما بمغادرة البلاد أو تفضيل البقاء فيها بشكل غير قانوني. وفي العام نفسه، نقلت وسائل الإعلام، أخبار رفض قرية سويسرية، تعد واحدة من أغنى بلدات أوروبا، استقبال عشر لاجئين سوريين، بعدما فضل سكانها أن يدفعوا غرامة ربع مليون يورو، على أن تلتزم بلدتهم، ذات الألفي نسمة وثلاثمئة مليونير، بحصتها في برنامج إعادة التوطين الأوروبي للاجئين، والتي لم تتجاوز استقبال أسرتين.

كان المخزي في هذا كله، أن المدينة، وإن احتفظت باستعراضاتها السنوية، نسيت تسامحها ولاجئيها وتاريخهم الطويل، هو ما أخبرني به سائق التاكسي التونسي، في يومي الأخير هناك. ففي الصيف، تفتح جنيف ذراعيها على اتساعهما للسياح الخليجيين، حتى تكاد العربية تصبح لغتها الأولى. تحب جنيف العرب، وهي متسامحة تجاههم كعادتها، بالطبع طالما أنهم ليسوا لاجئين ولديهم ما يكفي لينفقوه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها