الخميس 2017/11/16

آخر تحديث: 12:54 (بيروت)

لبنان يتهجّى سياسته الجديدة

الخميس 2017/11/16
لبنان يتهجّى سياسته الجديدة
الثقافة السياسية المُراد تكريسها، منذ 12 يوماً، وباشتغال حثيث لماكينة واعية، تقدّم لشكل جديد من الصراع (غيتي)
increase حجم الخط decrease
منذ تلاوة رئيس الحكومة، سعد الحريري، بيان استقالته من الرياض قبل 12 يوماً، تُتداول في لبنان مفردات جديدة – قديمة. قديمة في الاستهلاك، مُجدَّدة في المعنى والترميز: السيادة، الاستقرار، الوحدة الوطنية، الاستقلال، التسوية، الدولة، التدخل الخارجي، النأي بالنفس... وسائر التنويعات.

كأننا نشهد ولادة ثقافة سياسية لبنانية جديدة، أو لعلها طَبعة مَزيدة ومنقَّحة. وذلك ليس لأن البلد، على آفاته، حَيّ كوطن، بمكوّناته وقواه السياسية وجماعاته وواقعه العسكري والمليشيوي غير القابل للإنكار. وليس بفعل ما تفرزه تفاعلاته الداخلية، ضمن المؤسسات الدستورية وفي شوارع العمل الحزبي والمدني. ولا بأثر من تفاعلاته، ككيان، مع الأزمات، أكانت تلك التي ينتجها نظامه وحُكمه، أم تلك التي تسقطها على رأسه مناطيد "الأشقاء" والرعاة الإقليميين والدوليين. الثقافة السياسية المُراد تكريسها منذ 12 يوماً، وبجُهد جبّار واشتغال حثيث لماكينة واعية، تبدو مُقدِّمة لشكل جديد من الصراع الداخلي، وربما في المنطقة أيضاً.

ذات يوم، تمثل العمل على تحقيق "السيادة"، في تحرير الأراضي اللبنانية التي تحتلها إسرائيل. وكان لا بدّ، في ظل بعبع العمالة، والتخوين الرافد للاستقواء والوصاية السورية-الإيرانية، التكتل حول القتال من أجل تلك السيادة والانصياع لتهديد "لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة". ثم أصبحت السيادة في حفظ السماء/الحدود اللبنانية من الخروقات الإسرائيلية، دون سواها، بما في ذلك السكوت على إسقاط طائرة عسكرية لبنانية من سماء الجنوب، وعلى سؤال "السياديين" آنذاك: ما الذي أخذ الطيار سامر حنا إلى هناك؟ وكيف وأين ومتى ينتشر الجيش اللبناني على الأرض الجنوبية؟... وتطورت السيادة إلى حنوّ طائفي/حزبي على هذا العميل الإسرائيلي أو ذاك، في مقابل قبضة سيادية حديدية على عملاء آخرين، أو حتى على مَن يُتهمون، مجرد اتهام، بالعمالة. ومن مآثر خطاب السيادة اللبنانية، محاولات ضرب المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بشتى الطرق، كالتشهير الدعائي، والإشاعات الإعلامية، والسعي إلى وقف تمويلها، وطبعاً التصلب في الامتناع عن تسليم المطلوبين للتحقيق أو الشهادة من "حزب الله".

بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكرّ سِبحة الاغتيالات السياسية إلى محمد شطح، باتت السيادة مصطلحاً للنزاع المحلي في شأن احتلال النظام السوري، العسكري والسياسي، للبنان. وازدادت الكلمة ضبابية مع مشاركة "حزب الله" في الحرب السورية، خلافاً للبيان الوزاري لحكومة يشارك فيها الحزب نفسه، وهو الذي أوصل مرشّحه إلى رئاسة الجمهورية أيضاً، ولم يوافق على سعد الحريري رئيساً للحكومة إلا بعد تسوية لم يلتزم بأهم ما ورد فيها، أي النأي بالنفس عن الأتون السوري. علماً أن الانخراط في الأتون هذا، لم ينحصر في القتال على الأرض السورية. بل تمدد إلى خطاب تحريضي، ما زال مستمراً، على لاجئين تسببت مليشيا "حزب الله" في نزوح جزء معتبر منهم إلى لبنان.

وتكتّلت الغيوم فوق السيادة، مع اختيار توقيت "معركة الجرود" ضد "داعش" في عرسال، والتنسيق مع قوات النظام السوري في هذه المعركة، بالتزامن مع محاولات وزارية ودبلوماسية لفتح باب خلفي يعيد النفوذ السوري المباشر إلى لبنان تحت عنوان أزمة اللاجئين السوريين وضرورات الاقتصاد والبنية التحتية وما إلى هنالك من واهيات. وصولاً إلى فرط رمّانة "السيادة" لتتناثر حبّاتها الحبيبة بين النداءات المُطالِبة بـ"إطلاق سراح" سعد الحريري من أجل سماع استقالته وهواجسه وشكاويه، على الأراضي اللبنانية. وكأنه طفل حردان، يسعى والداه إلى استيعابه، من دون نقض مسيرتهما في تربيته. فيما يسقط بعض من حبّات الرمّانة، الناضجة الآن إلى حدّ اقترابها من التعفن، على واجهة المواجهة الرسمية "لاحتجاز الحريري قسراً" في المملكة العربية السعودية. وهذا، اليوم، عنوان سيادي له الأولوية، في بلد تترنح حكومته الوحيدة الممكنة، ومعها هشاشة السِّلم الأهلي والاقتصاد الوطني المهدد بما ستطرشه على وجهه عقوباتٌ تستهدف "حزب الله" في المقام الأول. وما زال يُراد للحبّات الحامض-حلوة، تزيين كعكة اليمَن، بعد الحَرَن عند تاريخ ضرب الصاروخ الإيراني على الرياض باعتباره تالياً على تاريخ استقالة الحريري. وذلك، كما دُبّج الملف السوري في خطاب "حزب الله": في البداية كان الدفاع عن لبنانيين قاطنين في قرى سورية حدودية، ثم الدفاع عن المقدّسات الشيعية في العمق السوري، وبعده التصدي "للمؤامرة الصهيونية الغربية" على نظام الأسد "العروبي العلماني المقاوِم"، وأخيراً وأد الإرهاب و"التكفيريين" في مهدهم بحَربٍ استبقاية لحماية لبنان من تمددهم.. الذي حصل فعلاً.

ولعله من الجائز مدّ المنطق السيادي المتبدل نفسه، على الوحدة الوطنية مثلاً، باعتبارها اليوم تعني التحلّق الدرامي حول مطلب عودة الحريري (وعائلته!)، والذي ليس سراً أنه مواطن سعودي وأن السعودية مرجعيته، كما أن إيران مرجعية "حزب ولاية الفقيه". هذه هي الوحدة الوطنية إذاً، وليست التكافل من أجل صون النسيج اللبناني المتآكل بما فيه الكفاية.

ويصحّ تفكيك مفردة الاستقرار بالطريقة عينها. إذ أضحى معناها تجميد الستاتيكو المريض الراهن، على منوال "شر تعرفه أفضل من خير قد تتعرف عليه"، بدلاً من صوغ مقومات جدية، سياسية واجتماعية وأمنية وطائفية وحدودية وتشريعية، لإرساء استقرار أقل هلامية.

ثم، التسوية. أي تسوية؟ التي أتت بميشال عون رئيساً وسعد الحريري رئيساً للحكومة، وما فتئت تُبنى عليها استراتيجيات التحاصص في قانون الانتخابات وملف النفط وقانون الموازنة؟ أم التسوية التي قد تُبرم قريباً بشروط جديدة، الأرجح أن تكون كارثية؟ أم التسوية التي ستفشل، وستؤدي إلى تمسك الحريري، ومن خلفه السعودية، بالاستقالة، وبالتالي ستجعل لبنان ساحة مواجهة مباشرة سعودية – إيرانية، وحده الله يعلم عن أي إرهاب ستتفتق؟

والدولة، في الخطاب الساعي إلى هيمنة جديدة، ليست بيت الحكم والإدارة والحياة السياسية الجامعة بالحد الأدنى من السّلمية. ولا هي الشرعية في مقابل السلاح غير الشرعي، والتظاهرات العسكرية لـ"حزب الله" و"حركة أمل" و-بلا مؤاخذة- "حزب التوحيد العربي" و"الحزب السوري القومي الاجتماعي". بل، وكما جاء في تصريح لميشال عون، هي التي لا يمكن إيقاف شؤونها وخسارة وقتها في انتظار الإفراج السعودي عن الحريري. في حين أن "صدّ التدخل الخارجي" و"التزام النأي بالنفس"، كانا مطلبين بديهيين. ورغم صعوبة تحقيقهما، فقد شكلّا لفترة، بوصلةَ الممارسة السياسية ومفاوضاتها التي ربما فرشت شبكة أمان مؤقتة تحت اللبنانيين السائرين على حبل مشدود. والآن هما نُكتَتان، ألّفتهما الاستحالة الخارجة من المُضمَر المُتواطَأ عليه، إلى المُعلَن المسنون... وعلى السكين يا بلد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها