السبت 2017/10/28

آخر تحديث: 11:45 (بيروت)

الأكراد والبحث عن الاستقلال..."أين حدائقي وبساتيني؟

السبت 2017/10/28
increase حجم الخط decrease
في صيف 1978، أجرى سليم اللوزي حواراً مطوّلا مع محمد عبد الوهاب، نُشر في مجلة "الحوادث"، وفيه تطرّق إلى العلاقة الوطيدة التي ربطت الشاعر أحمد شوقي بالموسيقار الكبير في شبابه، وقال متسائلا: "أساسا، ان أحمد شوقي ظاهرة في حد ذاته، أفليس غريبا أن يكون أمير الشعر العربي رجلاً تركياً؟"، فقاطعه عبد الوهاب، وقال: "أوّلا شوقي كردي وليس تركياً، ثانيا انه ليس أول كردي نابغة في تاريخ العروبة". فقال سليم اللوزي: "هذه أوّل أسمع ان احمد شوقي كردي. كيف عرفت أنت؟". فردّ الأستاذ: "عرفت في دمشق. لقد ذهبنا لزيارة ضريح صلاح الدين الأيوبي، وهناك وقف خاشعاً، ولمحت في عينيه خيال دموع يحاول أن يحبسها، فقلت له: يا باشا بتعيّط ليه؟ كانت أول مرة أراه يبكي. فقال: لأنّ صلاح الدين كردي مثلي. عندئذ عرفت أن شوقي كردي وليس تركياً".


كان صلاح الدين الأيوبي وأحمد شوقي من الكرد عرقياً، ولكن يصعب القول إنهما يجسدان "القومية الكردية"، وما تمثّله هذه القومية على صعيد اللغة والحضارة والثقافة. وُلد الناصر لدين الله أبو المظفر يوسف بن أيوب في تكريت، وكان والده أيوب بن شاذي والياً عليها، وهو من أسرة كردية، لكن هذه الأسرة لم تكن "قومية" بالمفهوم الحالي، والدليل على ذلك أسماء أعضائها، فمنها العربية، ومنها الفارسية، ومنها التركية. نشأ يوسف بن أيوب في عهد نور الدين زنكي، حاكم حلب الذي قاتل الصليبيين وضمّ إلى سلطانه معظم بلاد الشام ومصر. عُيّن وزيراً في القاهرة، وعند موت حاكمها أعلن نهاية الخلافة الفاطمية، ثم اتخذ لقب "سلطان"، مؤسسا بذلك حكم الأسرة الأيوبية، ثم سار من مصر إلى دمشق، وشرع في محاربة الفرنجة، وانتصر عليهم في حطين عام 1187، لكنه اضطر إلى التوقيع على "معاهدة الرملة" بعد انتصار الصليبيين في عكا، وتوفي في عام 1193، ودُفن إلى جوار نور الدين زنكي بالقرب من الجامع الأموي في دمشق. في المقابل، وُلد أحمد بن علي بن أحمد شوقي سنة 1868 في حي الحنفي في القاهرة القديمة، وكان أبوه كردياً، وأمه تركية شركسية. نشأ مع جدته لأمه في قصر الخديوي إسماعيل، وبرع باكراً في نظم الشعر، وأصبح في شبابه شاعر القصر المقرب من الخديوي عباس. نُفي إلى إسبانيا سنة 1914 بعد مهاجمته للاحتلال البريطاني، وعاد بعد ست سنوات إلى وطنه حيث لمع نجمه في نظم قصائد المناسبات الوطنية والاجتماعية، وبايعه الشعراء العرب سنة 1927 أميراً للشعراء، ورحل عن هذه الدنيا مكللا بالمجد سنة 1932، وظل في الذاكرة الجماعية العربية أمير البيان والفصاحة والمعاني والبديع حتى يومنا هذا. 
 
في زمن انحلال الإمبراطورية العثمانية وصعود القوميات، جعل العرب من صلاح الدين بطلاً عربياً، كما جعل منه الأتراك بطلاً تركياً، وشاع الحديث عن هويته العرقية مع ظهور "المسألة الكردية" في مطلع القرن العشرين، وتوالي انتفاضات الكرد في عدة مناطق محورية على مدى عقود من الزمن. في تموز-يوليو 1930، نشرت مجلة "مصر الحديثة" تحقيقا حول "الثورة في بلاد الكرد" التي قضت عليها القوات التركية بمشاركة السلطة الإيرانية، وتحدّثت عن "كردستان"التي تكثر فيها المسالك الوعرة والغابات والجبال والوهاد، كما تحدثت عن الأكراد، وقالت إنهم "شعب ذو قوة وبأس، يعيش في حالة أشبه بحالة البداوة، وقد ألف الغزو منذ القدم، وفيه الكثير من القبائل التي لا تزال على الفطرة"، وهو اليوم "عنصر متفرّق يسكن في ظل ثلاث حكومات هي تركيا والعراق وإيران، ولكل من هذه الحكومات موقف خاص إزاء الأكراد". اصطدمت الدولة التركية بالأكراد منذ نشوئها، وقضت على انتفاضتهم في عام 1925، وأعدمت زعيمهم الشيخ سعيد بيران، وشتّت شملهم، "ثم عملت على تعزيز موقفها، فربطت الولايات الشرقية بطرق تؤمن مواصلات الجيش معها، ونفت كثيرين من الزعماء، ونقلت عشرات الألوف من السكان إلى مقاطعات أخرى أكثرها في غربي الأناضول، وعمدت لاستمالة الباقين في البلاد بإعطائهم البذور مجانا وتسهيل سبل الزراعة لهم، وأخذت تعمل لنشر الفكرة التركية وفقا للسياسة التي تسير عليها، وقد لجأت بعد ذلك إلى عقد المعاهدات مع إيران والعراق من جهة، وسوريا وفرنسا من جهة أخرى، للتضييق على الزعماء الكرد الموجودين في خارج بلادها".



في إيران، ثار الأكراد على حكومة طهران، "فعاملتهم بالأساليب نفسها التي عاملتهم بها تركيا، وعقدت مع الحكومة التركية المعاهدات التي تكفل العمل المشترك بينهما للقضاء على فكرة الاستقلال الكردي". وفي العراق، سعى الإنكليز إلى إيجاد دولة كردية تكون تحت نفوذهم، "ولذلك سعوا الى فصل الكرد الذي يقطنون من جهة الموصل عن العراق، على انهم لم يفلحوا في ذلك، فاكتفوا بإنشاء مدارس في العراق لتدريس اللغة الكردية، وولّوا شبان الكرد كثيرا من الوظائف الكبرى ليتمرّنوا عليها استعدادا للمستقبل". أنشأ الأكراد في بغداد "جمعية تعمل لنشر الدعوة في الولايات الشرقية سموها جمعية شمالي كردستان، وجعلوا غايتها اضرام الثورة، واتّخذوا لها شعار يد قابضة على مدية تقطر دما"، كما أنشأوا في دمشق لجنة مركزية لهذه الجمعية، وفي حلب لجنة أخرى، وعرفت تركيا بأمرهم، وألقت القبض على جماعة من قادتهم، فانتفض الأكراد من جديد، وسارت معارك شديدة انتهت بقمع الثورة في 13 تموز-يوليو.
تلك كانت حالة الكرد كما رصدتها "مصر الحديثة" في صيف 1930، ويخال القارئ العادي أنها لم تتغير منذ ذلك العهد. توالت انتفاضات الكرد في العقود التالية، وبقيت "المسألة الكردية" معلّقة بانتظار حل لا يأتي. يرى الأكراد أنهم يشكلون الشعب الرابع من حيث التعداد في الشرق الأدنى بعد العرب والأتراك والإيرانيين، وهم يتمتعون بتاريخ خاص بهم، كما ان لهم لغة خاصة بها، وهم يقطنون مناطق شاسعة تمتد من جبل آرارات إلى الخليج العربي وتشكّل كردستان التي تقسّمت وضُمّت إلى الدول التي قامت حديثاً، في العراق وتركيا وإيران وسوريا، وهذا ما جعل منهم أقليّات عديدة من أغلبية كبيرة. في الواقع، على مدى مئات السنين كانت "كردستان" مسرحاً لسجالات وحروب الإمبراطوريات العظمى، وتقاطع تاريخ الأكراد خلال هذه الحروب مع تاريخ جماعات أخرى تقطن في هذه الأراضي منذ مئات السنين. في تركيا، فشل الأكراد في تحقيق "استقلالهم" عن الدولة، كما فشلوا في حثّها على الاعتراف بهم كجماعة قومية لها هويتها الخاصة. في إيران، استطاع الأكراد أن يؤسّسوا في مطلع 1946 دولة خاصة بهم حملت اسم "جمهورية مهاباد"، لكن هذه الجمهورية اندثرت سريعا قبل أن تكمل عامها الأول. من مهاباد، فر الملاّ مصطفى برزاني إلى ضفاف نهر آراس، عند الحدود الفاصلة بين تركيا وإيران والاتحاد السوفياتي، وعاد من منفاه بعد انهيار الحكم الملكي في العراق عام 1958، وقاد "الحزب الديمقراطي الكردي"، واصطدم بالسلطة العراقية في عهد عبد الكريم قاسم، كما في عهد خلفه عبد السلام عارف. واصل الملا مصطفى البرزاني المعركة بعد أن بلغ السبعين، وظهر إلى جواره ابناه مسعود وادريس كضابطين في القوى الكردية.
تعرض الأكراد لنكبات جديدة في العقود التالية، ودخلوا في مرحلة تاريخية جديدة مع قيام منطقة الحكم الذاتي في كردستان العراق سنة 1991، ونجحوا بعد سقوط صدام حسين في استعادة موقعهم كغالبية سكانية في مدينة كركوك ("قدس كردستان"). هكذا لاح "الحلم الكردي" بالاستقلال من جديد، الا ان هذا الحلم سرعان ما اصطدم بتصدّي الدول المجاورة له، كما في السابق. نظمت السلطة الكردية استفتاء حول إقليم كردستان، وبعد ثلاثة أسابيع من الاحتفالات والأفراح، تبدد "الحلم بدولة كردية" إثر استعادة حكومة بغداد سيطرتها على محافظة كركوك والعديد من المناطق متنازع عليها، وقيل يومها ان ما جرى هو "انقلاب عراقي بمباركة ودعم إيران وتركيا".

مرة أخرى، استعاد الأكراد قصيدة من قصائد جكرخوين، أشهر شعرائهم المعاصرين، لحنها الفنان شفان بروز وغناها: "أين حدائقي وبساتيني؟ / أين رياضي وجناني؟ / لقد احتلها الأعداء/ آخٍ. أين كردستاني. أين؟".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها