السبت 2017/10/14

آخر تحديث: 11:26 (بيروت)

غيفارا العربي

السبت 2017/10/14
غيفارا العربي
غيفارا مع عبد الناصر
increase حجم الخط decrease
يوم الأحد الماضي، أحيت الحكومة الكوبية الذكرى الخمسين لاعتقال وإعدام أرنستو تشي غيفارا، ونظمت بهذه المناسبة تظاهرة كبيرة في مدينة سانتا كلارا التي شهدت المعركة الحاسمة للثورة الكوبية. في العالم العربي، كما في سائر أنحاء العالم، عاد اسم تشي إلى الواجهة في هذه الذكرى، واستعاد محبوه مسيرته الاستثنائية.

لا يحتاج غيفارا إلى تعريف، فقصته معروفة ولا تزال متداولة. ولد في كنف أسرة أرجنتينية ثرية، وترك في شبابه دراسة الطب ليقود حروب العصابات الثورية في القارة الأميركية الجنوبية إلى جانب رفيقه فيديل كاسترو، ولعب دوراً محورياً في نجاح الحرب المسلحة التي أطاحت بنظام باتيستا. ثم شغل مناصب عديدة في الحكومة الجديدة، لكنه عاد وترك الوزارة وقرر مواصلة الكفاح المسلح في بقية دول القارة، إيماناً منه بـ"الثورة العالمية"، وشرع في "عولمة" نضاله في المكسيك، ثم شارك في ثورة الكونغو، وعاد إلى بوليفيا حيث أصيب في 8 تشرين الأول-أكتوبر1967، واعتقلته فرقة مدربة على أيدي القوات الأميركية، وأعدمته في اليوم التالي. واجه غيفارا الأسر والإعدام ببسالة، كما شهد أعداؤه، وتحوّل بسرعة إلى قديس في البلاد حيث خاض المعارك. واختزلت هذه الصورة شهادةُ الممرضة سوزانا أوسيناغا التي رأت مع بعض زميلاتها جثة تشي إثر إعدامه، وقالت: "عيناه المفتوحتان أصابتانا بالصدمة، نحن الممرضات. كان شعره طويلاً ولحيته مرسلة. كان يشبه المسيح. كنا نقلبه على جنب، فتنظر عيناه إلينا، ونقلبه على جنب اخر، وتظل عيناه مثبتتين علينا. كان ذلك صادماً لنا".


أفردت الصحافة المصرية صفحاتها لتشي، المناضل الفدائي، إثر إعلان إعدامه. والمعروف أن عبد الناصر كان مقرّباً من من رجال الثورة الكوبية، وقد دعا التشي إلى زيارة الجمهورية العربية المتحدة العام 1959، فلبّى الدعوة، وزار غزة التي كانت تحت الحكم المصري ومرّ على مخيم الشاطئ للاجئين، ثم توجّه إلى القاهرة حيث استقبله الرئيس المصري في قصر القبّة، وقُلّد وسام الجمهورية العربية المتحدة من الدرجة الأولى. ألقى المناضل الكوبي في المصريين خطاباً تحدّث فيه عن الثورة والمساواة الاجتماعية والثورة الصناعية، ثم توجّه إلى دمشق حيث زار قبر صلاح الدين الأيوبي والجامع الأموي بعدما أجرى لقاءات دبلوماسية مع الرئيس شكري القوتلي. شملت هذه الزيارة السفارة المغربية في القاهرة، وانتهز الوزير المغربي عبد الله إبراهيم، هذه الفرصة، ليدعو غيفارا إلى زيارة المغرب، فلبّى الدعوة، وقصد الرباط، وتمّ "احتجازه" أو التضييق عليه طوال يومين مع مرافقيه في فندق "باليما" بأمر من المدير العام للأمن الوطني المغربي حمد الغزاوي، إلى أن تدخّل عبد الله إبراهيم لإطلاقه، وتوجه بعدها في موكب رسمي إلى حي السوسي، ووقع اتفاقاً تجارياً مع الحكومة المغربية، ثم قضى أياماً في مراكش. وعاد غيفارا إلى العالم العربي في العام 1963، وزار الجزائر، وتجددت هذه الزيارة في العام 1965، وشملت مصر والجزائر حيث ظهر غيفارا للمرة الأخيرة على المسرح الدولي، وشارك في ندوة عن التضامن الإفريقي الآسيوي ألقى فيها محاضرة تاريخية.

رثت الصحافة العربية "التقدمية"، غيفارا، عند رحيله، وترددّ صدى هذا الرثاء في مواقع أخرى بعيدة من الولاء الناصري. احتلت صورة تشي غلاف "ملحق النهار"، مع تعليق يقول: "تسع رصاصات وجثة سقطت يوم الاثنين، أعادت فأشعلت أسطورة هذا الرجل الأرجنتيني المولد، الكوبي الجنسية، ثمّ الثائر المقاتل في الأدغال من أجل المظلومين. انه أرنستو تشي غيفارا الذي أقلق أميركا اللاتينية وأميركا الأخرى. شاعر مسلّح، عمره 37 سنة. وفي ربيع 1965 اختفى لابطاً الكرسي الذي أُعطي إياه في كوبا، وصار غامضاً. ويبدو في آخر صورة له قبل انتقاله إلى حيث أَحبّ أن يكون". استعاد عبد الكريم أبو النصر سيرة "شاعر الأميركيتين المسلّح، المليء بالأعشاب، والتائه في الأدغال من أجل المظلومين"، في مقالة طويلة ختمها متسائلاً: "ونحن، في العالم العربي؟ كان غيفارا بالنسبة إلينا المرأة المستحيلة التي نشتهيها ولا نستطيع الوصول إليها. كان الحلم الذي ننادي بتحقيقه، ولا نجرؤ. كان كل المستحيلات وكل المحرّمات وكل العقد المكبوتة التي نودّ تفجيرها، وكل المساوئ التي نعجز عن تجاوزها: الجبن، الجهل، التعصّب، الأنانية، الحسد، الأحقاد، الضغائن... ولم نعرف كيف نستقبل موت غيفارا. لم نقبل أن نصدّق ذلك. ثم، حين اتّضحت الحقيقة، بكينا وانتحبنا ولطمنا الوجوه. كأنّنا نبكي في موت غيفارا مأساة العجز التام في تحقيق أمانينا وأهدافنا، وموتنا نحن".


أفرد الشاعر أنسي الحاج صفحته الأسبوعية للشاعر الذي "مات مضرّجا بالحياة"، وكتب في رثائه: "يمكن أن نقول كان شيوعياً؟ طبعاً يمكن. يمكن أن نقول أيضاً كان شائعاً غير منظور في الشعوب كالنشيد والنبوءة ورعشة الأبطال. بعد سقوط الميت قتيلاً تنهض في الحياة نهضته، إذ هو يكون قد سقى الأرض. والأرض إذ تشرب فلا يذهب فيها الدم هباء. وجثته مفتوحة العينين زهرة تفتح في الضمير إلى الأبد، وحقول من القمح تخضب وتموج في الخيال والأحلام والسهول والجبال. وتحجّ العصافير إلى قبره، في النهار. وينزل القمر إلى سطح قبره في الليل، كلّ ليل، سارقاً من إيمانه ويأسه، حناناً وحرارة. يمكن أن نقول عندنا مثل غيفارا؟ يمكن أن نقول عندنا مثل غيفارا. غيفارا الأرجنتين وكوبا وبوليفيا هو أيضاً لنا. نملكه بالأخوة البشرية وينتسب إلينا بالأحلام. قال أبوه: لا أصدّق أنهم قتلوه. ونحن كما قال أبوه".



تحوّل غيفارا إلى أيقونة عالمية أثر رحيله، وباتت صورته رمزاً للتحرر والحرية. سارع المخرج الإيطالي باولو هوريش إلى تصوير فيلم يروي مغامرات "التشي" خلال الشهور الأخيرة من حياته، ولعب النجم الإسباني فارنشيسكو رابل دور البطولة في هذا الشريط. ردّت هوليوود، وقدّمت رؤيتها الخاصة لهذه الرواية في فيلم أميركي من إخراج ريتشارد بالانس. اختير عمر الشريف لدور البطولة، وهلّل الإعلام العربي لهذا الاختيار، وعندما عرض الفيلم، أجمعت الصحافة على انتقاد الفيلم، وقُيّم في أميركا كواحد من أسوأ خمسين فيلماً في تاريخ السينما. في بيروت، عُرض الفيلم الأوّل في ثلاث صالات، وحملت إعلانات الصحافية تعليقاً يقول: "فيلم البطولة والشجاعة، مقتبس عن يوميّات الثائر العظيم في بوليفيا. قصة ملايين الناس الذين يحاولون التخلّص من الظلم والذل والاستعباد". وعُرض الفيلم الثاني في صالتين، وكتب سمير نصري عنه في دليل "ملحق النهار": "هوليوود تناولت شخصية الثوري الكبير واستغلّتها للدعاية ضد كل من يغلط ويخرج عن طاعة الولايات المتحدة الموقرة. أما فيديل كاسترو فما هو، في نظر أرباب سينمائيي كاليفورنيا، سوى كاريكاتور صالح لأن ينضمّ إلى شخصيات الرسوم المتحرّكة. فيلم رديء للغاية. أيديولوجياً هو مخجل، وسينمائياً هو فاقد الحسنات". 

بعد سنوات، حاول عمر الشريف التملّص من هذا الفيلم الرديء، وكتب في "سيرته الذاتية" التي صدرت العام 1977، ونقلتها كريمة زبانة إلى العربية على حلقات في مجلة "الأسبوع العربي": "الجميع يعرف بأني لست بيساري أو بيميني. لكن خطر تشويه صورة ومبادئ بطل ثوري، هذا ما لا يمكنني فعله. لذلك ولأول مرة في تاريخ هوليوود السينمائي أُدخل إلى العقد الذي وقّعته بند شرف وضمير، يخولّني النظر إلى الفيلم من الناحية السياسية، ورفض تصوير أي مشهد لا يعجبني ولا يرتبط بالحقيقة. صحيح أني استطعت الحفاظ على اسطورة غيفارا ومنع أي تشويه يمكن أن يلحق بها، لكني لم أستطع منعهم من السخرية من فيديل كاسترو. بعد ثلاثة أيام من عرض الفيلم في نيويورك ظهرت النتائج السلبية التي كنت أتوقّعها. لقد أظهر الأميركيون الشبان استياءهم بصخب، وأفسدوا كل مقعد وُجد في الصالة الكبيرة. ولقي الفيلم المصير ذاته في كل العواصم التي عرض فيها".

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها