السبت 2017/01/28

آخر تحديث: 11:23 (بيروت)

سلوى روضة التي قالت: قلّة تحررت من التبعية

السبت 2017/01/28
increase حجم الخط decrease
نعى وزير الثقافة غطاس خوري "الرسامة والنحاتة سلوى روضة شقير التي وافتها المنية عن عمر ناهز المئة عام"، وقال في بيان رسمي: "فقد الفن التجريدي في لبنان والعالم العربي احدى اهم وابرز الرائدات التي اشتهرت بأعمالها الموجودة في أكبر متاحف العالم. وكانت أيقونة هذا الفن باعتراف جميع النقّاد، وهي التي قيل عنها بأنها من نقلت الشعر العربي من حالته الشفوية السمعية الى البصرية باستعارات حركة الشكل الهندسي ونموه التصاعدي الارتقائي في الفضاء". وأضاف: "سلوى روضة شقير أول من انشأت معهداً للفن التجريدي في لبنان كانت وستبقى لها بصمتها في عطاءاتها وكفاحها وابتكاراتها".

وُلدت سلوى روضة في بيروت العام 1916، وخطت خطواتها الفنية في محترفي عمر الأنسي ومصطفى فروخ. نشأت في زمن الفنانين "الرواد" الذين التزموا بالكلاسيكية، ولامسوا الإنطباعية، وبقوا على هامش المدارس الحديثة التي انتشرت غربا وشرقا في ذلك الزمن. عاصرت يوسف الحويك الذي جمع بين الأكاديمية والرومنطيقية، وشقّت طريقها في عالم النحت يوم كان زميلها الذي يقاربها في السن حليم الحاج يسير على خطى من سبقوه، مستعيدا المواضيع المحلية اللبنانية في قوالب أكاديمية تقليدية. يومها، كان قيصر الجميل يدعو تلامذته إلى الابتعاد عن المدارس الحديثة، وكان الفرنسي جورج سير يحثّ هؤلاء على اكتشاف هذه المدارس والدخول في العصر. اختارت سلوى شقير التجريدية، ومشت في هذا الدرب بخطى ثابتة دون تردّد، وأقامت في معرضها الخاص في شتاء 1952، وكانت معروضاتها "أوّل معرض تجريدي في لبنان"، كما كتب فكتور حكيم في جريدة "النهار" في مراجعته لهذا الحدث.

في هذه المقالة، استهلّ الناقد كلامه في الحديث عن التجريدية، وقال إن هذا اللون من الانتاج الفني سُمّي "هكذا نسبة إلى احتواء اللوحة على أشكال مجرّدة عن الموضوع أو بالأحرى عن موضوع واقعي معيّن". بحسب هذا التعريف السريع، بات حقل الإنتاج الفني يقسّم إلى فئتين: الفن الموضوعي أو التمثيلي الذي يمثّل كائنات واقعية كالإنسان والحيوان والجماد والطبيعة، والفن التجريدي الذي هو مجرّد عن هذه الكائنات". جاء هذا اللون الجديد من الفن نتيجة لعدة تطوّرات في الأساليب الفنية، من بول سيزان الذي رأى أن الأشكال المنظورة "يُمكن تجزئتها إلى أشكال أساسية"، إلى المدرسة التكعيبية التي أسّسها بيكاسو وبراك، " ثم التجريدية نتيجة ابتكار فتاني بعض الدول الشمالية". في هذه المسيرة التسلسلية، برز "استعمال التجريد بطريقة تقولبها من الكائنات الواقعية، فيتهيّأ للإنسان أنه أمام كائنات ولكن الفنان تصرّف بها تصرّفا هندسيا يجعلها بعيدة عن الواقع قريبة من الأحلام، وهذا اللون من الفن وإن بعدت أهدافه عن الفن الزخرفي الإسلامي فهو في الواقع يشابهه في انتاج بعض أربابه". وبهذا يمكن القول ان الفنان التجريدي بات "المزخرف غصباً عنه".

بعد هذا التعريف المختزل الذي يحتاج إلى التصويب في كثير من نقاطه، عاد فكتور حكيم إلى الكلام عن سلوى روضة، وقال: "وهذا حديث طويل عن لون جديد من الفن لم يتعوّد أبناء هذه البلد مشاهدته، والفضل في ذلك يعود إلى الفنانة الشابة سلوى روضة. نحن لا نتّهمها بالكبرياء ولا نتهمها بالإلحاد. وقد استعملت هذا اللون من الفن مدفوعة بطبيعتها الشرقية وباطنيتها الدرزية. وقد توفقت في إيجاد حل وسط ما بين زخرفة الشرق وتعبيرية الغرب. وقد لاحظ أغلب النقاد أن فتّها مطبوع بالرجولة، لأنها بدلا من استعمال أشكال مائعة وألوان طرية فهي تستعمل دائما هندسات قوية وألوان فاقعة، وهي تميل إلى المباني الجبارة ذات المآثر الكبيرة. ممّا يجعلها من الفنانين البنائين على حد تعبير النقاد".

انتصرت الحداثة بعد بضع سنوات، وانبرى جورج قرم للدفاع عبثا عن الكلاسيكية وأتباعها، غير أن الغلبة كانت للإتجاهات الحديثة، كما تشهد تجارب الفنانين الذين برزوا واحتلوا الواجهة في الستينات، إلا انهم اتهموا بالتغريب والخروج عن كل ما هو محلّي. عام 1966، دأبت مجلة "الحوادث" على اتنقاد المعارض التجريدية "الحديثة" بشيء من السخرية، ونشرت مقالة عنوانها "الفن اللبناني بلا هوية"، فردّت سلوى روضة شقير بعد اسبوعين بمقالة نارية حملت عنوانا عريضا: "رفيق شرف بلا هوية، والفن اللبناني عال، وأنتم تضلّلون الفكر". انبرت رائدة الفن التجريدي للدفاع عن "الفن التجريدي الذي اعتبره الكاتب مقتبسا عن الفن الأوروبي"، واتّهمت رفيق شرف بنقل بيكاسو، وقالت: "الفلاح اللبناني البيت اللبناني، حتى الحوادث المهمة اللبنانية لا تستطيع أن تجعل الفن لبنانيا، لأنها قشور تغلف شيئا حيويا عميقا قابلا للحياة، وكذلك اللبادة والجرة والشروال، جميع هذه الأشياء لا تعطي هوية لبنانية إذا كان الأسلوب اسلوب رجل من إسبانبا".

عادت سلوى روضة شقير في مداخلتها إلى جيل داوود قرم وحبيب سرور وخليل صليبي، أي إلى العصر الذي عُرف بـ"عصر النهضة"، ورأت أن نهضتنا الفنية حين بدأت "في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إنّما قد دُعيت نهضة، لأن الفنان اللبناني أو العربي ترك تقاليده التجريدية ليقلّد واقعية عصر النهضة الأوروبي، التي كانت قد اندثرت وقامت عليها الإنطباعية المليئة بالحيوية والديناماكية. والجدير بالملاحظة أن نتساءل لماذا تأثّر الفنان في أول عصر نهضتنا بالواقعية الكلاسيكية المندثرة ولم يتفاعل مع الفنانين الأحياء في ذلك الوقت امثال سيزان وفان غوخ وغوغان وماتيس؟". ثمّ أضافت مستطردة: "قلائل جدا هم الذين تحرّروا من قيد التبعيّة في أوائل الستينات، أما بعض التجريديين فلا يزالون تابعين لأساليب الفنانين الكبار المحدثين. ومن يزر معرض الخريف أو الربيع في بيروت يرى جميع المدارس الأوروبية والأميركية ممثّلة في انتاج فنانينا، وهذا ما يجعل رياض شرارة يقول: ما يزال الفن في لبنان من سلالة تيمورلنكية".

كما فعل فكتور حكيم عام 1952، قدّمت الفنانة الرائدة تعريفا بالتجريدية، وقالت ان هذه المدرسة وُلدت "في أوروبا في السنة نفسها التي ولدت فيها التكعيبية عام 1910، وشاء القدر أن لا يضيع على العرب أهمية انتاجهم الفني الذي ظلّ مجهولا طيلة قرون لاعتقاد الغربي ان الفن الذي يخلو من المنظور كالمرأة العارية والمناظر المألوفة وحكايات الحرب والدين، هو فن زخرفي، وقد كفر أبناؤنا بفننا العربي تماشّيا مع الغرب. ولعلّ هذا السبب الأساسي الذي دعا فناني عصر نهضتنا إلى انتهاج الكلاسيكية لسدّ ثغرة كانت في اعتقادهم تنقص الفن العربي".

بانتصار التجريدية في الغرب، "أُعيد للعرب مكانتهم العالية في فهم الفنون، فالكتب التي نشرت بعد عام 1930 تعدّ العرب من أرقى شعوب العالم فنيا، مع ان تجريدهم يختلف عن تجريد هذا العصر لأن للزمن أحكامه. فالتجريد إذا من صميم تراثنا. وقد طبع الفنان العربي القديم بهوية عربية، ويستطيع التجريد أن يطبع الفنان الحديث، ان كان فنانا أصيلا، بهوية لبنانية عالمية".

استعادت سلوى روضة شقير قول جمال عبد الناصر: "لقد فاتنا عصر البخار وعصر الكهرباء، فلنكن مستعدين للمساهمة في عصر الذرة"، وأضافت: "لنبني مع العالم مدينتنا الحديثة التي هي بطابعها عالمية. فالإقليمية هي مظهر ثانوي بالنسبة للعالمية التي تميّز عصرنا شئنا أم أبينا". وختمت مداخلتها بالسخرية من الذين يقولون بأن اليهودية تقف وراء التجريدية، وقالت: "أما اتهام اليهودية بأنها تمول مثل هذا الاتجاه فنقول لأول مرة شكرا لليهودية التي أعادت للعرب مركزهم الفني العالمي الذي حرمهم منه الغرب حقبة تزيد عن خمس مئة سنة".

يثير كلام سلوى روضة شقير اليوم أكثر من سؤال. ويمكن لمن يتأمّل في نتاجها إلا أن يتساءل: هل نجحت الفنانة في خلق مدرسة تجريدية خاصة لها جذورها العربية الإسلامية كما يُقال عادة، أم أن تجربتها تندرج في خانة التجريديين "البنائين" الذين سبقوها كما أشار فكتور حكيم سنة 1952، وأن كلامها يماثل كلام العديد من الفنانين العرب الذين حاولوا أن يصبغوا عل أعمالهم صبغة تراثية، غير ان أعمالهم بقيت على هامش هذا التراث؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها