الإثنين 2017/01/16

آخر تحديث: 13:59 (بيروت)

أمي الحبيبة... من بودلير إلى سانت إيكزوبيري

الإثنين 2017/01/16
أمي الحبيبة... من بودلير إلى سانت إيكزوبيري
همنغواي
increase حجم الخط decrease
عن دار مها للنشر في مصر، صدر حديثا كتاب جديد للباحث المغربي سعيد بوخليط، تحت عنوان: "أمي الحبيبة من بودلير إلى سانت إيكزوبيري، رسائل أدباء". هو، ترجمة إلى العربية، لمجموعة رسائل، بعث بها أدباء كبار إلى أمهاتهم، ارتباطا بسياق معين. ذكريات، حنين، نزهات، حكايات أسطورية، لحظات حميمية، ساعات النوم، مشاعر الغضب والفرح.

يتضمن الكتاب رسائل من شارل بودلير، غوستاف فلوبير، هنري جيمس، أندريه جيد،  مارسيل بروست، جان كوكتو، ويليام فولكنر، ارنست همنغواي، سانت إيكزوبري. جميعهم اقتسموا هذه اللحظات من طفولتهم مع أمهاتهم. لكن فيما بعد، تجلت الصعوبات، وتبلورت تباينات وجهات النظر، فباعدت الخلافات بين الطفل وأمه، بيد أن الإحساس بحب فريد، لا حدود لها، لم يختف أبدا...

تظهر هذه الرسائل،  شهادات عن حكايات هائمة ونزاعات وتوافقات وأحزان وأفراح، عاشها بعض عظماء أدباء الإنسانية، مع المرأة التي كانت مصدرا لوجودهم: أي الأم.
 
من الرسائل:

إرنست همنغواي: أمي
 كانساس سيتي
16يناير 1918

أمي العزيزة
اليوم فقط تلقيت رسالتك. بدأت أتساءل عن سبب غياب أخبار العائلة لكن القطارات جميعها كانت معطلة. لقد وصلت البرودة إلى عشرين درجة تحت الصفر، رغم عدم تساقط الثلج كثيرا. تقريبا على امتداد كل منطقة كانساس اعتمد كل فرد على قدميه الاثنين أو ثلاث. لم يتحرك أي قطار سواء صوب الغرب أو الشرق. هكذا انقطعنا حقا عن باقي العالم لفترة زمنية معينة. أيضا، النقص في الفحم هنا لازال مجحفا. مع ذلك علينا المبادرة لوضع مشاريع لأننا على أبواب فصل الربيع.

الآن، جففي دموعك أمي ثم هدئي من روعك. عليك أن تجدي شيئا يفوق ما يجول في خاطرك أهمية يشعرك فعلا بالاضطراب. بالتالي، لا داعي للانزعاج أو الإحساس بالضيق لمجرد فكرة أني لست مسيحيا صالحا. على العكس، أنا كذلك دائما وأصلي كل ليلة وأومن على نحو سليم وشاق أيضا. إذن اطمئني! فأن أكون مسيحيا مرحا لا ينبغي أن يقلقك.

سبب عدم ذهابي إلى الكنيسة يوم الأحد مرده التزامي بالعمل غاية الواحدة صباحا كي أنهي آخر تفاصيل صدور جريدة "star"صبيحة اليوم الموالي وأحيانا أبقى مستيقظا إلى الثالثة أو الرابعة صباحا. عموما لا أفتح قط عيناي يوم الأحد قبل الساعة الثانية عشر ونصف ظهيرة. إذن مثلما لاحظتِ لست رافضا. كما تعلمين لا أتحدث بحماسة عن الدين بيد أني مسيحي صادق قدر الإمكان. يوم الأحد هو اليوم الوحيد في الأسبوع الذي أستطيع خلاله النوم ملء جفوني. أيضا، كنيسة "الخالة أربيل" أنيقة جدا لكن القس ليس ظريفا بالمطلق مما يشعرني بغربة المكان...

الآن أمي عندما أقرأ ما كتبتيه عن كارل(إدغار) وكذا بيل(سميث) ينتابني غضب مرعب. لقد فكرت لحظتها على الفور في الرد عليك للإدلاء بوجهة نظري. لكني تريث حتى أهدأ. مع أني لم ألتق أبدا كارل ولا أعرف بيل سوى معرفة سطحية، إلا أنكِ كنت غير منصفة بجفاء. يعتبر كارل أميرا بل تقريبا المسيحي الأكثر أصالة الذي لم ألتق مثله قط ويؤثر علي أكثر قياسا لباقي معارفي الآخرين. لا يستحضر لسانه باستمرار الدين لكنه مسيحي صادق بعمق وشخص لطيف.

لم أستفسر قط بيل عن الكنيسة التي يرتادها، لأن الأمر لا أهمية له. نحن الاثنان نؤمن بالله والمسيح ونتطلع معا نحو حياة مستقبلية دون اكتراث بالعقائد.

أرجوك لا تعودي ثانية إلى انتقاد أفضل أصدقائي. إذن اطمئني، فكما ترين لا أسير على المنوال الذي تظنين.
. مودتي
إرني.
* لا تقرئي هذا الكلام على أي شخص وأرجوك احرصي على مزاج فرح.
 
أندريه جيد: أمي
 1894
فندق بوتي بيير
روزمون
لوزان

أمي العزيزة،
أعرف أنك وحيدة مرة أخرى، أخشى من إصابة قلبك بفتور، وقد غمرك حزن شديد، وأريد اليوم أن أكتب إليك فقط لأخبرك كم أضمر لك من الحب والحنان. يبدو أن تعلقي يجعلني أفهم حقا جل الأفكار الرمادية التي يمكنها أن تحوم حولك،خلال أيام وتثير غضبك: أحب أن تعمل هذه الرسالة على استبعادها.

لقد علمتِ بالقصة العجيبة لفالنتين التي أتوافق معها بخصوص كره سويسرا، مع ذلك قمنا بجولات ممتعة البارحة وقبل البارحة. إذن وقت رائع ضاعف سعادتنا، شاهدنا تلك المناظر الجبيلية المعروفة بـ''جورج دو تريان''، جولة لا تنسى، ابتدأتها بأن أخلفت موعد القطار، وتركت خالي وفالنتين يسافران بدوني، ثم أضعت قبعتي في القطار، إلخ إلخ. ستروي لك فالنتين كل تلك التفاصيل.المهم، تسلينا كثيرا.
بالأمس، تناولنا الشاي في الغابة صحبة كل نزلاء الفندق الذي نقيم فيه. فالنتين ساحرة: لا يمكنني قط أن أكون سعيدا لمجرد هذا التوقف القصير في لوزان، لقد كتبتِ إليها بالأمس كلمة مقتضبة لامستها بعمق.
سأبقى هنا إلى يوم الغد أو بعد غد، ثم سأرحل إلى منطقة ''إنجادين'' عبر منتجعي ''فوركا'' و''شيدي أندرمات'' وأظن، لست متأكدا، أني سأراسلك.
خالتي مريضة جدا، لكنها فاتنة، أيضا خالي مثير وجين جذابة. أنا سعيد لأن فالنتين اجتمعت بهم.   
لا شيء آخر في جعبتي بوسعي إخبارك به، أفقد بسهولة أعصابي، لكن هذه الأجواء ممتازة بالنسبة إلي.
أمي الحبيبة، إلى اللقاء. أحبك، أكثر مما تتصورين، وأتذكر النزهة الرائعة التي قمنا بها وحدنا فقط بالقرب من مقاطعة "بونيبوسك''(منطقة نورماندي)، كما كنا نفعل خلال السنوات السالفة.
إلى اللقاء. أنا ابنك العزيز.
أندريه

أنطوان دي سانت-إكزوبيري: أمي
بوينس آيرس، 1930

أتحسر حقا لكوني أحزنك. مع ذلك، فأنا أكابد نفس الشعور. كما تلاحظين لقد ألفت إلى حد ما على اعتبار نفسي بمثابة حماية لكم جميعا. أود مساعدتك، وحاولي أن تعثري حين العودة على منزل متكامل.
إن خاب ظني شيئا ما في أهمية موقعي ضمن أفراد الأسرة، فإن هذا لا يؤثر على محبتي.
إحساس كبير فعلا يكلفني حقا أحزانا ولا يمكنني التفكير في زاوية بين طيات هذا الكون بغير تعطش جامح كي أكون إلى جواركم. لا يمكنني أن أستجمع قواي وسط هذه الحشود إلا وأنا أفكر في رائحة زيزفون منطقة سان-موريس، وعبق الدواليب، ثم صوتك، ومصابيحك التي تضيء بزيت أغاي. ثم كل ما اكتشفته وشكل أكثر فأكثر دواخل نفسي.لا يقتضي المال ربما تضحية كبيرة جدا. وعندما أفكر بأن مونو انساقت وراء ملاحقة هذا السراب مع استمتاع أقل بالمهنة ورغيف الخبز، أحس بشيء من المرارة. عودة محتملة، تدريب مؤقت، كل هذا مجرد خدعة مؤقتة. ستدرك كم نحن سجناء، عندما لا يتعلق الأمر سوى بعادات وحاجيات. ولأن الحياة هي حقا بنية متشابكة، لا سيما مع ذلك المجهول الذي يمسك بك دائما.

تقولين فعلا بأن كل المبادرات قطعية واتركوا تأملات المتعة أو التجربة لأصحاب المليارديرات. حينما سنغادر نحو الهند الصينية، فمن أجل البقاء هناك، حتى ولو أنهكنا اليأس. وضع لن يصلحه قضاء العطلة، ذات يوم في فرنسا. تنتهي العطل، ثم علينا أن نعود دائما: العطل مصدر لكل أسوأ الأمراض. لن نرحل ثانية نحو بعض الحنين الذي نتحسر عليه بل جهة تلك الجاذبية القوية لساعات في الغالب مؤلمة جدا. هي الحياة من يأخذ هذا المنحدر، سنرحل في كل الأحوال.

تمنيت قدومك بالتالي فكرت في استدعائك، لكني انشغلت بمجابهة وقائع مختلفة بحيث لم أكن متيقنا من بقائي هنا. لحظتها كنت لأغادر وأنا أنعم بهدوء أكثر، لذلك من الضروري أن تأتي.
أكتب قليلا، لا أتوفر على الوقت، غير أن الكتاب الذي أشتغل عليه بكيفية بطيئة جدا، سيكون عملا رائعا.

أحبك أمي وأقول لك صدقا بأنه من بين مختلف كل مظاهر المحبة، فمحبتك هي الأغلى تثمينا، ثم أعود إلى أحضانك خلال اللحظات الشاقة وأحتاج إليك دائما مثل طفل صغير، فأنت منبع هائل للسكينة وصورتك تطمئن تماما مثلما تمنحين  حليبك لصغارك جميعا.  

أشرد نحو خزانتي الصغيرة بسان موريس، وكذا أشجار الزيزفون. أروي لجميع الأصدقاء، مختلف ألعابنا خلال مرحلة الطفولة، ثم حصان أكلين أيام تساقط الأمطار، أو الساحرة، ثم تلك الحكاية المفتقدة عن الجنيات. 
من المحزن أن يعيش الفرد نفيا عن طفولته.    
أقبّلك مرة أخرى.
أنطوان.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها