السبت 2016/08/06

آخر تحديث: 14:12 (بيروت)

.. وقتل هولاكو في حلب أكثر من بغداد

السبت 2016/08/06
increase حجم الخط decrease
عاش العالم الإسلامي بين منتصف القرن العاشر ومنتصف القرن الثالث عشر سلسلة من التحولات العاصفة أدت إلى نهاية الخلافة العباسية على يد المغول. شهد الكثير من المؤرخين هذه الحوادث، وسجّلوا في مؤلفاتهم مختلف فصولها ومنهم غريغوريوس أبو الفرج الملطي المعروف بابن العبري، نسبة إلى قرية عبرا على الفرات. في "تاريخ مختصر الدول"، استعاد ابن العبري تاريخ الخلافة العباسية وسقوطها، ونقل وقائع حصار حلب وصراع القوى المتصارعة على حكمها في السنوات التي تلت سقوط بغداد.

دخل الإسلام حلب ايام خالد بن الوليد، ثم أضحت المدينة حصنا من حصون الدولة الأموية ومن بعدها العباسية، وتحوّلت إلى عاصمة للدولة الحمدانية في عام 944. سيطر عليها الأيوبيون عام 1183، وحكمها الملك الناصر يوسف بن محمد ابن الظاهر غازي ابن الناصر صلاح الدين، آخر ملوك بني أيوب. أضاف الملك الناصر إلى دولة حلب بلاد الجزيرة وحران والرها والرقة ورأس عين وحمص، وخضع له صاحب الموصل وماردين، وسعى إلى التمدّد، فدخل مصر، ثم انهزم بعد أن صدّه عسكرها، فعاد إلى الشام، وكان ذلك في منتصف القرن الثالث عشر. بحسب رواية ابن العبري: "لمّا استولى المماليك على الديار المصرية، سار الملك الناصر صاحب حلب إلى دمشق، فسلمها إليه أهلها فملكها وأقام بها وصارت دار مملكته. ثم راسله بعض المماليك من مصر ليسير إليهم فيسلموا له مصر، فعبّى عسكره وسار إلى نحو الديار المصرية ليملكها كما ملك دمشق. فلما بلغ أمراء الترك ذلك، بادروا إليه في عساكرهم والتقوا الشاميين بناحية غزة وكسروهم وهزموهم، فعاد الملك الناصر ومن معه خائباً خاسراً".

حدث ذلك في زمن تحولت فيه الإمبراطورية العباسية إلى مجموعة دويلات متناحرة يحاصرها الفرنجة غرباً والتتر شرقاً، حتى بدت الخلافة العباسية وكأنها محصورة في بغداد. تقدم هولاكو نحو العراق في عهد الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وقضى على الخلافة العباسية في بغداد سنة 1258ـ، ثم شرع في الاستعداد لاجتياح بلاد الشام ومصر. "توجه الأشرف صاحب ميافارقين (شمال شرق دير بكر) إلى الملك الناصر صاحب حلب يطلب منه النجدة ليمنع المغول من الدخول إلى الشام، فاستخفّ برأيه ولم يسمع مشورته". حاصر المغول المدينة،  وحفروا خندقاً عميقاً، ثم نصبوا المناجق، وابتدأوا بالقتال، ولما أدركوا أنهم غير قادرين على أخذ المدينة، "أبطلوا القتال وحاصروها ومنعوا الناس من الدخول إليها والخروج عنها". وجّه هولاكو رسالة ترهيب طويلة إلى الملك الناصر يدعوه فيها إلى الاستسلام، وذكّره بما آلت إليه الأمور ببغداد، وقال: "فليكن لكم في ما مضى معتبر، وبما ذكرناه وقلناه مزدجر. اتعظوا بغيركم، وسلّموا إلينا أموركم قبل أن ينكشف الغطا، ويحل عليكم الخطا. فنحن لا نرحم من شكا، ولا نرق لمن بكا، قد أخربنا البلاد، وأفنينا العباد، وأيتمنا الأولاد، وتركنا في الأرض الفساد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب، فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من سهامنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وعقولنا كالجبال، وعددنا كالرمال. فمن طلب منا الأمان سلم. ومن طلب الحرب ندم. فإن أنتم أطعتم أمرنا وقبلتم شرطنا كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا. وإن أنتم خالفتم أمرنا وفي غيكم تماديتم فلا تلومونا ولوموا أنفسكم. فالله عليكم يا ظالمين فهيئوا للبلايا جلباباً، وللرزايا أتراباً، فقد أعذر من أنذر. وأنصف من حذر".

طلب هولاكو من صاحب حلب أن يحضر عنده،  فبقي "متحيراً خائفاً مذعوراً ولم يدر ما يصنع"، وبعث إليه بابنه الملك العزيز حاملا الأموال الهدايا الكثيرة. وعاد الإبن إلى أبيه حاملا رسالة من "ملك الأرض" تقول: "نحن للملك الناصر طلبنا لا لولده، فالآن إن كان قلبه صحيحاً معنا يجيء إلينا، وإلا فنحن نمشي إليه". فهلع الملك الناصر، وبقي متردّدا في رأيه. مضى هولاكو في تحقيق هدفه، "ونزل بنفسه على حران وتسلمها بالأمان وكذلك الرها،  ولم يدن لأحدٍ فيهما سوء، وأما أهل سروج فإنهم أهملوا أمر المغول فقُتلوا عن أقصاهم". تقدّم هولاكو، ونصب جسراً على الفرات قريباً من مدينة ملطية وآخر عند قلعة الروم، فعبر عسكره، وبلغ منبج حيث قام بـ"مقتلة عظيمة"، ثم توزّع على القلاع والمدن. واصل المغول تقدّمهم، وخربوا المعرة، ودخلوا حماه وحمص بالأمان، "فلما بلغ ذلك الملك الناصر أخذ أولاده ونساءه وجميع ما يعز عليه، وتوجّه منهزماً إلى برية الكرك والشوبك. وعندما وصل المغول إلى دمشق، خرج أعيانها إليهم وسلّموها لهم بالأمان، ولم يلحق بأحد منهم أذىً". نزل هولاكو بنفسه على حلب، ونصب المناجق، وبدأ بالزحف عليها، وفي ايام قليلة ملكها، "وقتل فيها أكثر من الذي قتل ببغداد"، ثم استولى على قلعتها "في أسرع ما يكون وقتاً".

بعدما أحكم سيطرته على حلب، توجّه "ملك الأرض" إلى قلعة الحارم في نواحي انطاكية، وطلب من أهلها أن يسلّموها له مقابل الأمان، فاشترطوا عليه أن يأتي بوالي قلعة حلب فخر الدين كشاهد على كلامه، "فتقدم هولاكو إليه، فدخل إليهم وحلف لهم على جميع ما يريدون، فحينئذٍ فتحوا الأبواب، وتسّلم المغول القلعة. ثم أن هولاكو تقدم بقتل فخر الدين الوالي أولاً، ثم بقتل جميع من كان في القلعة من الصغار والكبار، الرجال منهم والنساء، حتى الطفل الصغير في المهد. ورحل من هناك عائداً إلى البلاد الشرقية. ورتب في الشام أميراً كبيراً يسمى كتبوغا ومعه عشرة آلاف فارس من العسكر". لاحق العسكر الملك الناصر المنهزم، وقبضوا عليه، "وساروا به إلى هولاكو، ولما مثل بين يديه فرح به ووعده بكل خير". سارع السلطان المملوكي الملك المظفر سيف الدين قطز صاحب الديار المصرية إلى وقف هذا الزحف، وحشد جنده للمواجهة، وانتصر في معرك عين جالوت في رمضان 1260، واستعاد دمشق بعد بضع ايام، وحلب بعدها بشهر، "فغضب هولاكو لذلك، وتقدّم بقتل الملك الناصر، وقتل أخيه الملك الظاهر وجميع من معهم".

بعد هذه المحن الرهيبة، استقلّت حلب عن الدولة المملوكية المركزية في عهد الملك الظاهر بيبرس، وعاد المغول لمهاجمتها من جديد في عام 1271، فتصدى لهم بيبرس، وعادوا إلى المدينة في 1280، ودمّروها، وهرب سكانها نحو دمشق. واجه القائد سيف الدين المملوكي هذا الغزو، وتقدّم نحو حلب مع جحافل جنوده، فتراجع المغول إلى ما بعد نهر الفرات. إثر هذه المعركة، عرفت حلب شيئا من الاستقرار حتى نهاية القرن الرابع عشر، ثم خربت من جديد على يد تيمورلنك، وسطع نجمها من جديد يوم تحولت لمركز ولاية وعاصمة لسوريا في ظل العهد العثماني الأول. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها