لماذا أستحضر المثال العراقي في سياق قضية أحمد ناجي وما الرابط بينها وبين تلك الفترة التي اتسمت بفاشية نظام صدام؟ وكان أكثر ما يخشاه هي المواقف السياسية وليس "الأخلاقية" كما ورد في تهمة ناجي؟ أذكر هذا المثال لأن قضيته لها أبعاد كثيرة لا تقتصر فقط على فقده لحريتهِ الشخصية لمدة سنتين وحرمانهِ من الحياة الطبيعية في حكم جائر لا علاقة له بأي نوع من الجرائم. ولا تقتصر على التضييق على الكتاب بل تتعداها إلى الخشية من تكرار التجربة العراقية في مصر. إن تلك الاجراءات الفاشية التي كان يقوم بها نظام صدام تجاه المفكرين والكتّاب جعلت من كتّاب كثيرين، ممن لم يتمكنوا من الخروج أو الهروب، خائفين من ملاقاة مصير زملائهم ممن طاولهم القتل والسجن بتهمة قلب النظام أو زعزعة أمن البلد أو تهم لا تخطر في بال أحد. وبسبب من هذا، اتسم النتاج الأدبي لتلك الفترة بالتورية والتقية!
في نهاية السبعينات والثمانينات وبدايات التسعينات جاء معظم النصوص الشعرية والسردية عبارة عن "شيفرات" غير مفهومة ومستوى آخر "مهزوز" من الداخل، حتى أن قوة اللغة والصورة لم تشفع لهذا الاختلال الداخلي. يشعر القارئ بسهولة مدى رعب الكاتب وهو يكتب العمل. لأن الكاتب، مهما كانت درجة موهبته وحرفيتهِ، فهو كاتب ويريد أن يقول ما يريد ولهذا اسمها كتابة، أن نكتب ما نفكر وما نتخيل، ولكن في حال ما لم يستطع بسبب بطش الدولة لا يبقى أمامه سوى حلين: إما أن يكتب بالشيفرات ويكون غيره، أو يصمت! وفي الحالتين هو يموت ككاتب.
ستظل تلك الفترة وصمة عار ونقطة قاتمة في تاريخ الأدب العراقي ظل يعاني منها الكاتب ولم يتخلص من ارثها بسهولة حتى وقت قريب. لقد صار "نهج" التورية والتقية في الكتابة سبيلاً لا خياراً للكثيرين منّا، ومن دون وعي صرنا، نحن الجيل الشاب وقتذاك، نكتب تبعاً لخوف الآخرين من دون أن نعي أننا نخاف من دواخلنا. ويوماً بعد يوم أصبحت هذه التورية حركة أدبية، أو ظلّ أصحابها يقنعون أنفسهم بأنها حركة أدبية، لا نتيجة ممسوخة للخوف "المشروع". بعدما زالت الغمّة السوداء عن صدور العراقيين بسقوط صدام، واجه الكتّاب تحدياً في العودة إلى طبيعتهم بعدما "تقولبوا" على الكتابة الضبابية. وكانت النتيجة حتماً مخيبة للآمال. فقد اعتقدوا أن الأمر سهل ولم يعرفوا أن الخوف قد حفر بئراً عميقاً لهُ في أنفسهم كان من الصعب الخروج من تلك الهوة بكتابة حقيقية.
كثيرون صمتوا وتوقفوا عن الكتابة لأنهم اصطدموا بالعالم الخارجي، خارج عالم الخوف، ولم يستطيعوا الاندماج من جديد. ومنهم من استمر على "حركته الأدبية" وما زال يدافع عنها ويسميها ميزة ذلك العصر.. ومنهم من فهم أن التحرر من الخوف والخروج من البئر هو أن تكون مباشراً وسطحياً.. قلة من استطاع تسلق البئر شيئاً فشيئاً والخروج إلى سطح الإبداع ليلحق نفسه قبل فقدانها إلى الأبد.
منذ بدء قضية أحمد ناجي وأنا أحاول تصور الموقف الذي دفعَ بذلك الشخص ليرفع عليه قضية "أخلاقية". ومنذ صدور الحكم الثاني بحقهِ وأنا أحاول استيعاب حال ناجي حقيقة. واتساءل إذا مرّ الحكم عليه ولم يستطع أحد منعه أو تغييره، ترى ماذا سيحدث لهُ؟ وماذا سيحدث للكتّاب والكتابة بعدها؟ كيف سيكتبون ابداعهم وهل سيفكرون مراراً قبل أن "يجرأوا" على كتابة أنفسهم كما هي؟
هل ستشهد المرحلة المقبلة بروز "حركة أدبية" ممسوخة لا تمثل أصحابها، فقط لأن صوت القُبح أعلى ويد السلطة أقوى؟
لا أحد يتصور مدى بشاعة أن تكون غير نفسك في لحظة الكتابة ولا أحد يتوقع مدى احتقار الكاتب لنفسه عندما يضطر لذلك. الكتابة هي أكثر فعل ذاتي يحسسنا بقيمتنا الفردية كبشر. فلماذا يريدوننا مسوخاً نسخاً منهم؟!
الحرية لأحمد ناجي..
الحرية للكلمة أينما كانت بلا شرط أو قيد.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها