الأحد 2016/10/23

آخر تحديث: 13:09 (بيروت)

جداريات قبر صور: حب وغيرة وخطف وتفاوض

الأحد 2016/10/23
increase حجم الخط decrease
افتتح مؤخراً الطابق السفلي للمتحف الوطني اللبناني الذي خصّص للفن الجنائزي في لبنان عبر العصور. يضم هذا الطابق مجموعة كبيرة من الآثار، من أهمّها قبر من الحقبة الرومانية اكتُشف في نواحي مدينة صور العام 1937، رُمّم منذ بضع سنوات بفضل منحة من وزارة المديرية العامة للتعاون للتنمية في وزارة الخارجية الإيطالية. 

يعود هذا القبر إلى القرن الثاني للميلاد، وتزيّنه مجموعة من الجداريات تتميّز بمواضيعها المستقاة من الإرث اليوناني الذي شاع في العالم المتوسطي. على مدخل القبر، تحلّ صورة امراة تتوسط كرمة مورقة تمتد أغصانها من حولها بشكل متجانس. هي "بسيكة"، توأم روح الإله إيروس، وترمز إلى النّفس كما يشير اسمها. وبحسب الرواية المتداولة في الحقبة الرومانية، كانت الأميرة آية من الجمال وهو ما أثار غيرة الإلهة فينوس فبعثت بابنها إيروس إليها ليجعلها تقع في حب أحقر إنسان على هذه الأرض، فطار لإتمام مهمته، غير انه هام بالأميرة، فخرج عن طوع أمّه وخصّص لحبيبته قصراً يزورها فيه كل ليلة بعدما وعدها بحبّ لا نهاية له، شرط ألا تسعى إلى معرفة هويّته أو إلى رؤية وجهه. خالفت "بسيكة" الأمر، واقتربت من حبيبها بينما كان نائما فرأت وجهه، إلا أنّ الإله استيقظ على وقع نقطة زيت سقطت من القنديل الذي كانت تحمله، فثار وولّى هارباً، تاركاً حبيبته فريسة للّوعة والشقاء. وبعد تجارب عديدة ومغامرات طويلة آخرها النزول إلى الجحيم والسير في دركاته، عادت الأميرة والتقت حبيبها، فاتّحدت به، وحظيت بالخلود، ما أبعدَ عنها غيرة فينوس.
تحضر "بسيكة" على باب قبر صور، وهي هنا صورة للنفس التي تختبر التجارب وتعاني المحن ومن ثمّ تتحد بالحب الإلهي، فتفوز بالغبطة الدائمة.

تتبع زينة القبر الممتدة على جدرانه الأربعة، النمط الروماني الكلاسيكي. في الجزء الأسفل، تحلّ الصور "المجرّدة"، وفي الجزء الأعلى، تحضر الصور الإنشائية المستقاة من الميتولوجيا الإغريقية. تجد هذه الصور موقعها فوق شريط نباتي طويل تحمله بشكل متواز مجموعة من الفتيان المجنّحين. على الجدار الشمالي، نرى رجلاً ملتحياً ينحني وسط أربع شجيرات مثمرة، ماداً ذراعيه إلى الأمام، وهو كما تدعوه الكتابة اليونانية المرافقة، "تانتالوس"، أحد ابناء مجمع آلهة الأولمب زيوس، وكان يشارك الآلهة الطعام إلى أن حاول اختبارها، فقتل ابنه الوحيد، بيلوبس، وقام بغلي لحمه على مرجل، وقدّمه للآلهة في المأدبة التي دعاهم إليها في قصره، فعاقبته ونفته إلى العالم السفلي حيث ابتلي بعذاب العطش والجوع. نقل هوميروس هذه الرواية في "الأوديسة"، وقال: "ثم رأيت تانتالوس في ضعف من العذاب، رأيته يتخبط في عين حمئة من حميم، وقد غاص فيها إلى ذقنه، والموج يضرب وجهه ويصفعه، وهو مع ذلك يلهث من الظمأ، لا يجد ما يبلّ به غلته، أو يطفئ جواده وصداه. فهو إن حنى رأسه غمرته الحمم، وإذا رفع جسمه كرّت الأرض على قدميه بأمر ربها فهو في عذاب مقيم. ولله أشجار الفاكهة دانية قطوفها فوق رأسه، من رمان حلو وتفاح عطري، وتين معسول وزيتون، كلما أشتهى ثمرة وكاد، هبت الرياح عاتية فذهبت الغصون عالية في السحاب".

إلى جانب صورة تانتالوس، تحضر صورة أخرى تمثل رجلاً عارياً يقف منتصباً وهو يمدّ يمناه ليمسك بيد امرأة تلتحف بمعطف أخضر من رأسها حتى ساقيها، وهما كما تسمّيهما الكتابة اليونانية، هرقل وألكستيس. بحسب القصة التي خلّدها يوريبيدس في مسرحية "ألكستيس"، احتال الإله أبولو على ربات العالم السفلي، وخلّص الملك أدميتوس، وبات على الملك أن يقدّم فدية يُفدى بها تتمثّل في روح شخص يموت بدلاً منه، فافتدته زوجته ألكستيس، وخلدت إلى الموت، وحين علم هرقل بالأمر، تعهّد بإعادتها إلى الحياة، وعاد بها إلى زوجها وهي محجبة، مخفياً هويتها عنه، وطلب اليه ان يحتفظ بها في حجرة زوجته الفقيدة، فرفض الملك ذلك بشكل قاطع إلى أن كشف له هرقل عن هويتها الحقيقية، فعمّ الفرح وأعياد الشكر القصر بعدما خيّم عليه الحزن والألم واليأس. 

تزين الجدار الشرقي لوحة كبيرة فُقد جزء كبير منها للأسف، وتمثّل "خطف بروزيربينا" كما تؤكّد الكتابات اليونانية المرافقة. أسر بلوتو إله العالم السفلي الصبية بروزيربينا، ابنة زيوس -رب الأرباب وديميتر- إلهة الزراعة والخصب، وطار بها بينما كانت تقطف الأزهار في أحد المروج الخضراء، وحملها إلى مملكته في العالم السفلي حيث اقترن بها. حزنت ديميتر على ابنتها، وجابت العالم بحثاً عنها، وعزمت على ألا تسمح للمحاصيل بالنمو ثأراً لفقد ابنتها، فأمر زيوس، الرسول الإلهي هرمس، بأن يحرّر بروزيربينا حتى يعود للأرض نماؤها وخصبها، وتبيّن له ان ابنته دخلت في زواج مع خاطفها لا يُمكن إبطاله، فعقد حلاًّ وسطًا بين ديميتر وبلوتو، وبمقتضى هذا الاتفاق باتت بروزيربينا  تقضي ثلثي العام مع أمها، والثلث الباقي مع هرمز. وصارت فصول السنة تتغيّر بحسب هذا الإيقاع. فعندما تقيم بروزيربينا مع إله العالم السفلي، تصبح الأرض جافة قاحلة، وعندما تقيم مع والدتها، تنبت المحاصيل وتزدهر. في الجزء المتبقّي من الجدارية، يظهر هرمس وهو يقود أربعة خيول تجر عربة بلوتو، كما في الرواية التي استعادها الشاعر أوفيد في ديوان "التحولات": "اندفع الخاطف بعربته إلى الأمام، واستثار أحصنته، منادياً كلاً منها باسمه الخاص. وضرب على أعناقهنّ وأعرافهنّ، بالأعنّة ذات اللون الصدأي القاتم، وانطلق عبر البحيرات العميقة". 

على الجدار الجنوبي، نرى رجلاً مسناً ينحني أمام شاب يجلس بسمو على عرش من الرخام، ويظهر خلف الرجل المعمّم رسم فقد الجزء الأكبر منه، يمثّل رجلاً ممدّداً على الأرض. تسمّي الكتابات اليونانية الأشخاص الثلاثة، وهم بريام، آخيل وهكتور، أبطال "الإلياذة". تجسّد الجدارية خاتمة الملحمة، حيث يفتك آخيل بخصمه هكتور، قاتل صديقه باتروكلوس، ثم يربط جثته بعربته ليدور بها حول طروادة، ولا يجد الملك المغلوب، بريام، أمامه سوى أن يستجدي قاهره ليسمح له باستعادة جثة ابنه هكتور كي يكفنها ويدفنها، فالميت لا يدخل مملكة الأموات طالما بقي جسده من دون لحد. وفقاً لأشهر أبيات الفصل الأخير من ملحمة هوميروس، يركع بريام أمام آخيل ويقبّل يده الممدودة، ويستجديه قائلا: "هذا هو هيكتور، الذي من أجله آتي إلى سفن الآخيين/ لأعود به من عندك. وقد جلبت هدايا تفوق العدد/ فكرم الآلهة يا آخيل، وأشفق علي/ وأنت تذكر أباك. بل أنني أستحق الشفقة أكثر منه/ فلقد مرّ بي ما لم يمر على إنسان فوق الأرض/ وأنني أضع شفتي على يدي الرجل الذي قتل أولادي".

إلى جانب هذه الصورة، يحضر هرقل مرة ثانية بقامته العارية، وهو هنا يجر كلباً مقيّداً بسلسلة مربوطة حول عنقه. وفقاً للرواية المتوارثة، نزل البطل الإغريقي إلى العالم السفلي، "ليعيد كلب إله الموت الشنيع من مملكة الظلام"، كما أشار هوميروس في "الإلياذة"، ويُدعى هذا الكلب كلبيريوس، وهو حارس أبواب العالم السفلي، وغالبا ما يٌصوّر عند قدمي سيّده هاديس، سيد العالم السفلي.

تختزل جداريات قبر صور البديعة، الفن الروماني الجنائزي في عهده الأخير، وتجسّد جماليّته الخاصة التي طبعت ميراث العالم المتوسّطي في القرون الميلادية الأولى، قبل انتشار المسيحية. ترافق صور أبطال الأساطير الميت في مثواه الأخير، كأنّها تشهد على بؤس المصير البشري. الآلهة، وإن حضرت، تمثل صورة عن البشر، وهي تشاركهم قدرهم في هذه الدنيا الفانية، وتمضي معهم إلى العالم السفلي لتؤنسهم في مملكة الظلام.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها