السبت 2016/10/22

آخر تحديث: 11:07 (بيروت)

حِجابُك يا ماريان!

السبت 2016/10/22
increase حجم الخط decrease
"كلام يجب ألا يقوله رئيس.." لكنه قاله، واضطر لاحقاً إلى الاعتذار عن جزء معتبر منه. ففي الكتاب الصادر حديثاً، وهو عبارة عن مقابلة مطوّلة أجراها صحافيان من "لوموند" مع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، قال الرئيس أن "هناك مشكلة مع الإسلام، بلا شكّ"، موضحاً أن "الإسلام في حد ذاته ليس دِيناً خطيراً، لكن الإشكالية في أنه يسعى إلى تكريس نفسه داخل الجمهورية الفرنسية.. ويمكنه أن يصبح مشكلة إذا لم يُبلِغ المسلمون (السلطات) عن أفعال متطرفة، أو إذا قام أئمة المساجد بأفعال منافية لـ(قِيَم) الجمهورية".

إلا أن الانتقادات التي انهمرت على هولاند كالرصاص، لم تستنهضها العبارات أعلاه وحدها، بل في سياق لبقية الكلام عن المُسلِمات تحديداً (إضافة بالطبع إلى كلامه الذي اعتُبر مُحقّراً للقضاء الفرنسي وللرئيس السابق نيكولا ساركوزي ومنتخب كرة القدم الفرنسي، وصديقته السابقة فاليري تريلويلر).
قال هولاند: "محجّبات اليوم هنّ ماريان الغد".

هي ماريان، عارية الصدر، رمز الحرية والعقلانية، أيقونة الجمهورية الفرنسية التي تقود الشعب في ثورته، كما رسمها يوجين دولاكروا (1830). ماريان المنتصب تمثالها "الإلهي" وسط "ساحة الجمهورية" في باريس.

في رأي الرئيس هولاند: "إذا استطعنا تأمين شروط تحقيقها لِذَاتها، فإنها (المرأة المحجبة) ستحرر نفسها من حجابها وتصبح امرأة فرنسية، مع بقائها على تديّنها إن شاءت ذلك، وسيصبح في إمكانها أن تحظى بمثال أعلى". وأضاف: "هذه المرأة ستفضّل الحرية على الخضوع. ربما يحميها حجابها الآن، لكنها، غداً، ربما لن تحتاجه لتطمئن إلى وجودها في المجتمع".

لا حاجة إلى تأمل طويل لاستبيان التبسيط في كلام هولاند الذي يتناول الحجاب كـ"مرض" يمكن علاجه، أو قمع لا يستحيل رفعه، بل كأنه ساواه بالميول الإجرامية القابلة للكبح والترويض من خلال احتواء أصحابها اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً.

وقد نجازف فنخمّن أن هولاند بهَرَته الصُور التي احتفت بها الصحافة العالمية، وتُظهر نساء منبج في ريف حلب، إثر انسحاب قوات "داعش" من بلدتهن، وهن ينزعن أغطيتهن السود ويدخنّ السجائر أمام عدسات التصوير.

وإن لم يكن هولاند قد تأثّر بتلك المَشاهد، فالأكيد أن تصوّره عن الفرنسيات (المهاجرات) المحجبات، يرتسم في خطّ مواز لتلك الصور. أولاً، من حيث أن كثيرين صفّقوا لفعل "الخلع"، متجاهلين دلالة الإسلام "التقليدي" في ما ظهر من نساء منبج بعد نزعهن العباءة والنقاب، أي أجسادهن المغطاة وحجابهن "العادي"، كما في أي قرية ذات غالبية سكانية مسلمة. بل ذهب الاغتباط إلى اعتبار منظر نزع العباءات ذاك، تحريراً للمرأة، أسوة ببلدتها، على طريقة هدى شعراوي.

أما الرابط الثاني بين كلام هولاند وصُور منبج، فهو أن النقاب والعباءات السود كانت (بالفعل) طارئة على نساء منبج، إذ فرضها احتلال "داعش" للبلدة، لكن الحجاب عموماً ليس كذلك بالضرورة، ولا حتى النقاب في أماكن أخرى من العالم الإسلامي. والحال إن الرئيس الفرنسي يعبّر عن فكرة ما زالت سائدة بقوة في الغرب، وهي أن المرأة المحجّبة مجبرة على حجابها من سلطات اجتماعية ذكورية، من دون أي قناعة ذاتية، وأنها ستقفز للفوز بأول فرصة لخلعه، كما تُغافل فتاة مراهقة أبويها الصارمين لتُشعل سيجارة أو تسمح لابن الجيران بمغازلتها.

لكن، إذا كان الكلام عن ذكورية الدّين، وارداً وحقيقياً، كسُلطة مُستبطنة في التركيبة التربوية والثقافية للمجتمع الإسلامي المحافظ، تلمّستها بحوث ودراسات كثيرة، إلا أن فكرة الإجبار بالمعنى الحرفي والمباشر، تبدو اختزالية، بل وعلى شيء من الجهل، ليس بالمحرّكات "الروحية" والثقافية للجماعات المسلمة/الإسلامية فحسب، بل هو أيضاً جهل لأبسط التنظيرات المعاصرة حول سياسة/ثقافة الهوية وتجلياتها لدى الرجال والنساء معاً، في الشرق كما في الغرب.

لكن... بعد وضع رؤية هولاند هذه في مكانها، ربما يصحّ القول بأن الرئيس الفرنسي – من حيث لا يدري! – لم يُجانب زاوية الحقيقة، وإن لم تكن الحقيقة ذاتها التي توخاها في حديثه إلى الصحافيَين.

في كندا واسكتلندا، سُمح، مؤخراً، للنساء المنتسبات إلى الشرطة، بارتداء الحجاب.

ومصممة زيّ "البوركيني"، الذي أثار ضجة واسعة في فرنسا مؤخراً، هي المحجبة اللبنانية-الأسترالية، آهيدا زانيتي. وقد كتبت في جريدة "الغارديان" البريطانية قصة اختراعها لهذا الرداء الرياضي الحاجب لأجساد النساء، راويةً بأنها أرادت تسهيل أداء قريبتها الشابة في فريق كرة الشاطئ، مشددة على أنها "أسترالية" حتى النخاع، وتنتمي إلى هذا المجتمع المتنوع، وتريد أن تكون للمحجبات فيه فرصة ممارسة الرياضة وعيش الحياة الأسترالية الكاملة. وزانيتي لا تعتبر "البوركيني" رمزاً إسلامياً، وتقول أنه يمكن ليهوديات ومسيحيات وهندوسيات أن يرتدينه، إلى جانب سيدات يعانين سرطان الجلد، أو أمهات جديدات لم يرتحن بَعد لأجسادهن في المايوه البكيني.

وفي أستراليا أيضاً، انضمت المسلمات المحتجبات إلى فِرَق الإنقاذ البحرية. وتتدرّب مراهقة محجبة في سيدني لتكون أول راقصة باليه محجبة في العالم.

وأخيراً، وليس آخِراً، ظهرت الأميركية المسلمة نور طاغوري (الطامحة لأن تكون مذيعة تلفزيونية) في مقابلة مصوّرة لمجلة "بلاي بوي"، وهي المرة الأولى التي تُنشر فيها صورة امرأة محجبة في تاريخ المجلة الإباحية الممتد لأكثر من نصف قرن. وعلى غلاف مجلة "Women’s Running"، ظهرت المحجبة السورية-الأميركية رهف الخطيب (ربة منزل، أمّ لثلاثة أولاد، تهوى الركض، مدوّنة الكترونية، وشاركت في ماراثونات عديدة)، وذلك في سابقة احتفى بها فريق المجلة وقراؤها على السواء. وتقول الخطيب في مدوّنتها، إن التزامها بالركض الماراثوني، كمحجبة، هو شكل من أشكال "الدعوة" (للإسلام) الخاصة بها، تمارسها على طريقتها، إذ تروّج لإسلام معاصر ومتسامح وسلمي ومنخرط في مجتمعه (الأميركي).

واللافت أن الأمثلة أعلاه، كلها مرتبطة بمؤسسات حكومية أو أهلية، أو تتصل برافعات الثقافة السائدة (pop culture) وصناعتها، وليس بنشاطات جاليات تمارس ثقافاتها وتقاليدها في دوائر منغلقة على أهل الدار.

والحال، إن المحجبة الفرنسية يمكنها أن تصبح "ماريان"، بل لعلها تطمح إلى ذلك بالفعل وتسعى إليه. لكن الأرجح أنها ستكون "ماريان" مغطاة، لا "ماريان" نازعة الحجاب.ولعل الأسئلة الأبرز هنا هي: هل نحن، هنا، أمام مظاهر انتصار الثقافة الغربية/الليبرالية/العولمة على الإسلام؟ أم العكس؟ وهل نماذج نور ورهف والشرطة الكندية وفِرق الإنقاذ الأسترالية، هي تجارب "تحررية" للمحجبات – مع حجابهن؟ وهل تتغيّر، بالتالي، مفاهيم النسوية الجديدة، من الثورة على الحجاب، إلى الدفع في اتجاه "اندماجه" في أسلوب الحياة المعاصر، في الغرب قبل الشرق؟

هل بدأت "ثقافة المهاجرين" تستولي، فعلاً، على بيئاتها "غير الأصيلة"، ما يؤكد مخاوف غلاة العلمانية، كما هو الحال في فرنسا التي شقّت طريق جمهوريتها بكثير من الدم والتضحيات؟

هل تفكّر المواطنة الغربية المسلمة اليوم في امتلاك "خضوعها"، الجسدي والفكري، والإمساك بزمامه، على أنه خيارها وتمرّدها من الداخل؟ وهل هي في صدد امتلاكه فعلاً، أم أنها في الواقع تطبّع سلطة الدين ونظرة الذكر إلى جسدها ويومياتها؟

الأرجح أن كلاً من هذه الأسئلة يحتاج بحثاً لوحده. والأكيد أنه، من ضمن الإجابات المرتقبة، ثمة هامش واسع للنساء كأفراد، قصصهن المنفصلة-المتصلة، مساراتهن الحياتية، والتباين في طرق حَملهن لرزمة العائلة والمجتمع والتربية والذات المتفاعلة مع ذلك كله.

لكن يبقى صحيحاً أن مسلمات كثيرات، في أوروبا وأميركا وكندا، في سوريا ولبنان ومصر وإيران وأفغانستان وتونس... يغطّين رؤوسهن عُنوة، ومع ذلك فإن فرصةً كتلك التي يمنحهن إياها هولاند لن تجعلهن "ماريانات" بسِحر ساحر... تماماً كما أن محجبات في أستراليا وأميركا لم يقفن أمام الكاميرات الصحافية و"الإباحية" إلا بحجابهن.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها