الأربعاء 2015/03/11

آخر تحديث: 12:51 (بيروت)

شلومو ساند بدأ من سؤال: كيف تكون يهودياً علمانياً؟

الأربعاء 2015/03/11
شلومو ساند بدأ من سؤال: كيف تكون يهودياً علمانياً؟
لا يحمِّل الأخلاقية اليهودية المسؤولية المباشرة عن إنهيار العلاقة مع العرب، لكنه يعتبر أنها أتاحته
increase حجم الخط decrease
لا شك أن البُعد الشخصي هو السمة الأبرز في كتاب شلومو ساند الأخير، "كيف كففت عن أن أكون يهودياً؟". الكلام يخرج من القلب وبنبرة انفعالية تبدو في أحيان كثيرة أقرب إلى أدب السيرة الذاتية أو إلى المانيفستو النضالي منها إلى الكتابة التأريخية. الكتاب صدر العام 2013، لكنه ما زال يستدرّ مقابلات ومراجعات، خصوصاً أن ساند يكتب أيضاً في الصحافة الإسرائيلية (جريدة هآرتس). 

يحاول المؤرخ الإسرائيلي الرائد، واستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب (مواليد النمسا 1946)، أن يشرح لنا، في كتابه الصغير، كيف ولماذا كفّ عن التعريف عن نفسه بوصفه يهودياً. كل شيء بدأ بحادثة بريئة أطلقت في نفسه تساؤلات وشكوكاً أفضت لاحقاً إلى كتابيه الشهيرين "كيف اختُرع الشعب اليهودي؟"، و"كيف اختُرعت أرض اسرائيل؟"، اللذين فضحا الخرافات القومية الصهيونية. كان في ضيافة أحد أصدقائه في باريس العام 2001 حين قالت زوجة هذا الأخير إنها لا تفهم لماذا يعرِّف زوجها الملحد عن نفسه بوصفه يهودياً علمانياً، فهي، الملحدة أيضاً، لا تعرِّف عن نفسها بوصفها كاثوليكية علمانية أو كاثوليكية ملحدة. 

حاول ساند الإجابة وأخذ يدور حول نفسه، وكلما استفاض في الإجابة كان يغرق أكثر في السؤال. انتهى بالإستنتاج أنه لا رابط، سوى الديني، يجمع بين من يعرفون عن أنفسهم بوصفهم يهوداً حول العالم، وأن الكلام عن هوية قومية يهودية علمانية هو مفهوم متناقض بحد ذاته.

لكن النقاش يدور هنا حول الخرافة التأسيسية لكيان قومي واقعي يحمل ساند جنسيته، وتاريخ هذه الخرافة لا يمكن فصله عن تاريخ هذا الكيان. لذا كان على ساند أن يقدم مساهمته اللامعة بكتابة هذين التاريخين. في كتابه الأخير، هو يعتبر أن الهوية القومية اليهودية التي تتجسد في المفهوم الشائع لليهودي العلماني، والتي يتبناها في أحيان كثيرة مناضلون ضد سياسة الفصل العنصري (الأبرتهايد) والإحتلال والإستيطان الإسرائيلية، هي بحد ذاتها خرافة عنصرية ومن العناصر المؤسسة لتلك السياسة. إذا كان يمكن قراءة الكتاب كخليط بين السيرة الذاتية النضالية والمانيفستو النضالي ضد تلك السياسة، وبشكل أقل، ضد الإسلاموفوبيا في أوروبا، فهو يستعيد بانتظام التأريخ لتدعيم مواقفه. يذكرنا ساند أولاً بالبداهات التي ساهم في ترسيخها.

على غرار الإسلام والمسيحية، الدين اليهودي انتشر بالتبشير. ولد من الرحم التبشيري نفسه الذي ولدت منه المسيحية، وتطور بالتوازي معها، ولاحقاً بالتوازي مع الإسلام الذي انشق عنه. في السياق الأوروبي، الحضور اليهودي الأبرز يعود في جذوره إلى امبراطورية الكازار التي اعتنقت اليهودية وانتشر قاطنوها في الشرق الأوروبي بعد سقوطها. هذا الحضور أفضى، في كنف الإمبراطورية الروسية، إلى جماعة أو شبه قومية يهودية، تدعى الـ"ييديش"، تملك لغتها الخاصة ولهجاتها المتباينة ولباسها ومأكلها وتقاليدها الدينية والفولكلورية. وأدى تفشّي ظاهرة الغارات الدموية على تجمعات "الييديش"، بالتواطؤ مع السلطات الروسية، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى تهجير أعداد كبيرة منهم نحو الغرب الأوروبي وانتهت بما يقارب ثلاثة ملايين لاجئ "ييديش" في شوارع وغيتوهات عواصم أوروبا الغربية الأساسية.

هذا الوضع البائس أدى بداهةً إلى إيقاظ رهاب اليهود في مجتمعات قومية متراصة وغير مؤهلة للتعددية الثقافية والاثنية. إن كان هذا اللجوء الجماعي هو السبب المباشر لإطلاق الموجة الأخيرة من رهاب اليهود، الذي انتهى بالمحرقة، فهذا الرهاب متجذر في تاريخ الحضارة المسيحية وثقافتها. يسخر ساند من الهذيان الهوياتي السائد حالياً في الغرب حول إنفتاح وتسامح الحضارة الغربية، التي صار اسمها "يهودية ـ مسيحية" بعُرف الهوياتيين الغربيين الجدد، مقابل انغلاق وتعصب و"لا سامية" الحضارة العربية ـ الإسلامية التي حلت محل قوم "ييديش" في الغيتوهات الأوروبية. في هذا الصدد، هو يذكرنا بأن الحضارة المسيحية لم تستطع أن تتحمل في كنفها أي ديانة أخرى، ما عدا اليهودية التي أبقت الكنيسة على معتنقيها الملعونين في حالة بأس متواصلة تكون شاهداً على العدالة الربانية وصحة الطريق المتبع، في حين احتضنت الحضارة الإسلامية اليهود والمسيحيين والصابئة والهندوس لقرون طويلة في كنفها، وإن بصفة أهل ذمة.

يقدم ساند تاريخ الخرافة القومية اليهودية بوصفه تراكماً للهويات المُحتقَرة والمُحتقِرة لذاتها التي تخرج من جلدها بعد أن تلبسه لمن هو أضعف منها، وتتماهى مع محتقريها بالمزايدة عليهم باحتقار الذات المسقطة على عنصر ثالث. على هذا النحو، تبنى اللاجئون الييديش الشرقيون، الذين تعرضوا سابقاً للنبذ والإحتقار من قبل اليهود الغربيين أو الأشكيناز، لقب الأشكيناز بعدما محوا لغتهم وثقافتهم وأسماءهم لاستبدالها بالخرافة القومية التي اخترعها الأشكيناز الأصليين. لكن الييديش إنما تغربوا وصاروا أشكيناز، في مواجهة من هو أكثر شرقية منهم، أي اليهودي العربي الذي صار مطلوباً منه بدوره أن يخرج من جلده ويحتقر لغته وثقافته، وهذا ما فعله، وصار أكثر كراهية واحتقاراً لتوأمه المسلم من جلاده الأشكيناز.. وانتهاءً بالمهاجرين الروس الذين كانوا قطعوا أي علاقة بالدين اليهودي منذ وقت طويل (في أحيان كثيرة كانت أصولهم اليهودية مخترعة بتواطؤ مع السلطات الإسرائيلية)، والذين صار عليهم أن يكتشفوا يهوديتهم بالمزايدة على من سبقوهم، باحتقار العرب وكراهيتهم.

قد يكون باب "أن يرتاح المرء بعد أن يقتل تركياً"، هو الأكثر إثارة للجدل في الكتاب. يعتبر فيه ساند أن واقع الحصار الذي نما في كنفه الدين اليهودي جعل من أخلاقية هذا الأخير أكثر تركيزاً على الذات واستخفافاً بالآخر من الإسلام والمسيحية، وإن كان يستطرد بأن الفارق نسبي وأن الأخلاقيات الإسلامية والمسيحية هي أيضاً بعيدة من الكونية. والحال، إن كان ساند لا يحمِّل الأخلاقية اليهودية التقليدية المسؤولية المباشرة عن الإنهيار الأخلاقي المتفاقم في العلاقة مع العرب، فهو يعتبر أنها أتاحته وجعلته ممكناً.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها