الجمعة 2014/10/10

آخر تحديث: 14:19 (بيروت)

ميلان كونديرا.. حين تكتمل "مزحة" النهاية

الجمعة 2014/10/10
increase حجم الخط decrease

بعد سنوات طويلة من الانعزال والاكتفاء بكتابة المقالات الصحافية، ها هو الكاتب التشيكي ميلان كونديرا (1929) يخرج عن صمته الإبداعي، ويصدر روايته الجديدة "عيد اللامعنى"، والتي سرعان ما صدرت ترجمتها الهولندية قبل أيام عن دار نشر "آمبو-آنتوس" الهولندية، بعد أحد عشر عاماً كاملة قضاها كونديرا رافضاً إجراء أي مقابلات صحافية، مكتفياً باعتكافه في عزلته الأثيرة ومقالاته القصيرة التي تنشر في الصحف الفرنسية، يصدر الكاتب العالمي، الذي ظننا أنه قد بلغ من العمر أرذله (85 عاماً)، روايته الجديدة في حجم صغير لا يتعدى الـ 108 صفحات من القطع المتوسط، والتي تأتي لتفاجئ محبيه، بعدما ظنوا أن روايته السابقة "الجهل" (2003) ستكون خاتمة أعماله الإبداعية.

ميلان كونديرا صاحب العديد من الأعمال التي حفرت لها مكاناً عميقاً في داخلنا، مثل "الهوية و"خفة الكائن التي لا تُحتمل" و"الحياة هي في مكان آخر" و"الخلود" و"فالس الوداع"، يستعيد في روايته الجديدة عوالمه الأثيرة في التأريخ للدعابة وفلسفة الفكاهة، فهو الذي سبق وقدم لنا "كتاب الضحك والنسيان" أولى رواياته في منفاه الفرنسي الاختياري، و"غراميات مرحة" ومن قبلهما أولى رواياته على الإطلاق "المزحة" الصادرة سنة 1967، والتي يبدو أنه في روايته الجديدة "عيد اللامعنى" يستعيدها مرة أخرى، مجدداً من روحها الفنية وشخصياتها، ومحاولاً البحث عن روح الفكاهة الحقيقية، بحسب فيلسوفها الكبير هيغل، والذي يفترض كونديرا أنه كان الفيلسوف الوحيد الذي انتبه لدور الفكاهة وأهميتها في المأساة الإنسانية.

تدور أحداث الرواية الجديدة لميلان كونديرا في عالم من الدوائر المتروكة عن عمد دون أن تكتمل، والحكايات التي لا نهاية لها، أو قل الأكاذيب الملفقة المتواطأ عليها، تارة بالصمت وتارة بمجاراتها بأكاذيب أكبر وأضخم، من خلال أربعة أصدقاء من خلفيات ومراحل عمرية مختلفة: آلان، رامون، تشارلز وكاليبان، والذين يقررون في إحدى جلساتهم العدمية البحث سوياً عن المعنى الحقيقي للفكاهة في حياتهم، وكالعادة يقدم لنا كونديرا شخصياته الزئبقية المرحة دون أن نمتلك القدرة على القبض عليها كاملة بوصفها من لحم ودم، فآلن الذي تركته أمه وهو طفل رضيع وهربت لينشأ يتيماً، يعتبر أن السرّة هي الموضع الأكثر إيروسية في جسد المرأة، وفي الآن ذاته الموضع الأكثر فكاهة، حتى أنه لا يستطيع تذكر أي شيء من أمه الهاربة باستثناء سرتها التي ما يزال يتذكرها جيداً: "كان ذلك في شهر يونيو، وشمس الصباح تجاهد لتخرج آشعتها من بين الغيوم، بينما آلن يعبر بطيئاً أحد شوارع باريس، يراقب الفتيات اللواتي يكشفن عن سررهنّ العارية بين السراويل الواطئة والقمصان شديدة القصير، كان مأخوذاً ومتأثراً، كما لو أن قدرتهنّ على الإغواء لا تنحصر فقط في سيقانهنّ أو مؤخراتهنّ أو نهودهنّ، بل في هذا الثقب الصغير المستدير في منتصف الجسد".

أما الصديق الثاني تشارلز فهو متخصص ومولع بحياة ستالين، ويفكر في كتابة عمل مسرحي لمسرح العرائس مستوحى من إحدى الحكايات التي وردت عن ستالين في السيرة الذاتية للزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف، الذي أعقب ستالين في تولي حكم الاتحاد السوفيتي لأحد عشر عاماً (1953 - 1964): "ألا تعرف هذه الحكاية، غيّرت الكثير من عالمنا يا صديقي"، هكذا يقول تشارلز لصديقه رامون حين يزوره الأخير في بيته، راوياً له كيف أن ستالين حكى ذات مرة لمساعديه حكاية تدور حول اصطياد 24 من طيور الحجل بطلقات معدودة، ولغرابة الحكاية اعتبرها مساعدوه كذبة، دون أن يلتفت أحد منهم إلى أن ستالين كان يمزح: "لأنه لا أحد منهم كان يجرؤ على أن يتصوّر أن ستالين يمكن له أن يمزح، وهو ما أعتبره شخصياً بداية مرحلة جديدة في تاريخ العالم"، هكذا يوضح تشارلز وجهة نظره في مزحة ستالين لصديقه المندهش رامون!

كاليبان يعمل ساقياً في أحد المقاهي مع صديقه تشارلز، لكنه ليس ماهراً في حبك الأكاذيب مثل صديقيه رامون وتشارلز، وإن كان يتميز عنهما في فنون المراوغة، لكنه بالرغم من ذلك يقع في ورطة كبيرة حين يصور حاله أمام الآخرين على أنه رجل من أصول باكستانية، ويبدأ في محاولة إثبات أصوله الباكستانية للآخرين حتى يكتشف أنه يلقي بنفسه إلى التهلكة، فماذا لو بدأت الشكوك تثار حوله ويؤخذ في دوامة الشرطة لأي سبب من الأسباب التي تتطلبها الدواعي الأمنية، ومن ناحية أخرى يقع في حيرة مفادها كيف يقنع حبيبته البرتغالية بأنه ليس باكستانياً، كيف يقنعها بأنه كان يكذب عليها طوال القترة السابقة؟!

يكتب كونديرا روايته الجديدة، ليس بوصفه كاتباً كبيراً حقق ما يصبو إليه من مكانة وشهرة - مرض كثير من كتابنا الكبار في عالمنا العربي المأسوف عليه - بل يكتب بروح طفل يطرح الأسئلة التي تبحث عن إجابات شافية، دون جدوى، وليست مصادفة أن يستوحي ميلان كونديرا في روايته الأخيرة أجواء روايته الأولى "المزحة"، فالرجل يغلق الحلقة الإبداعية التي بدأها سنة 1967، راضياً وقانعاً، متعمداً اللعب بقارئه الذي ينتظر من روايته الجديدة شيئاً ذي جدوى أو معنى، كيف وهو يكتب روايته عن اللامعنى؟ عن الأكاذيب التي تكبر في غفلة منا، وتكاد تلتهمنا، عن الفكاهة التي تشكل عبثية وجودنا، فنستمرؤها، عن مسارات وحيوات البشر الذين يحاولون إيجاد معنى للامعناهم الوجودي، لتفاهتهم الإنسانية في هذا العالم المتشظي، لضآلتهم، وضياعهم، وحيرتهم.

يقول كونديرا في روايته الأهم "خفة الكائن التي لا تُحتمل": "إنها لتعزية لا تقدر بثمن، حين تشعر بأنه لا رسالة لدينا تجاه الآخرين"، في روايته الجديدة – والأخيرة على ما أعتقد – "عيد اللامعنى"، يطبق كونديرا هذه العبارة حرفياً، فالرجل لا يشعر بأن لديه رسالة ما تجاهنا، نحن قراؤه، وليس عليه أن يقدم إلينا يد الأب العارف بكل شيء، كي يخرجنا من وحل جهالتنا الآسنة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها